1. كانت الثورة فرصة لميلاد السياسة في بلد قتلت فيه الدولة المقدّسة كلّ شيء واتخذت السلطة فيها من السياسة قربانا. وبمقتل السياسة ماتت الحرية، وبموت الحرية مات الإنسان. الدولة المسمّاة وطنيّة في مجالنا العربيّ تقتل الإنسان لتتغذّى من دمه.. وليست هي الدولة القوميّة في المجال الغربيّ تلك التي تحيي الإنسان لتحيا بحياته.
2. الثورة، نعم، لا أزال أتحدّث عن الثورة، كانت فرصتنا من التاريخ أضعناها. الثورة كانت ضدّ الدولة، وهي المصلُ الذي أعاد الحياة إلى كلّ شيء، وأعاد الإنسان. غير أنّ الدولة التي تحتكر العنف ثأرت لنفسها من الشعب الذي ثار ضدّها وعادت بانقلاب على إرادة الشعب لتحكمه بعنفها. إرادة الشعب نعني بها اختياره من يحكمونه بانتخابات حرّة شفّافة نزيهة. الانتخابات، حتّى إذا شابتها شوائب في زمان التعدّد، تبقى ذات معنى، وتبقى الديمقراطيّة مهما قيل فيها أفضل من دكتاتورية عارية. الدكتاتورية نفسها تدّعي نسبتها إلى الشعب وتصدر نصوصا باسم الشعب، والشعب لا يعلم منها شيئا.
3. جرّب الفرقاء الديمقراطية وجرّبوا قبلها وبعدها وجهين من الدكتاتورية، ويُنتظَر منهم أن يحتكموا إلى العقل لكي يُخرجوا، مجتمعين، البلدَ من هذا المأزق الذي أوقعوه فيه.. نعم إنّ عودة الاستبداد من باب الانتخاب مسؤولية فرقاء السياسة فقراء الفهم في هذه البلاد.
توزيع المسؤولية على الجميع فيه تعويم وتمويه. لا بدّ من إزالة العُجمة ووضع النقاط على حروفها لكي نخرج من مناطق رماديّة كلّما خذلَنا الفهمُ وأوقعَنا في مأزق تظاهرنا بالعدل في قسمة المسؤوليات.
الذين صفّقوا للانقلاب ورأوا فيه تصحيح مسار، والذين أرجؤوا الحكم وقالوا ننتظر لنرى، جميع هؤلاء شركاء في اغتيال الديمقراطيّة الفتيّة التي كانت تحتاج إلى رعايتهم ولكنّهم تآمروا عليها وجمعوا الحطب وأضرموا فيها نيرانهم، وما هي إلا نيران الحقد والبغضاء.
4. دعونا من خطاب المخاتلة الجبان.. وتعالوا نتحاسب أمام العقل الجامع:
حركة النهضة لم تكن حزبا للفضيلة المطلقة، هي حزب تونسيّ منتسبوه متديّنون يرون في الدين ما لا يرى غيرهم، لا يرون فيه فصلا بين الشأن العام والشأن الخاصّ. وكلّ من لا يفصل، في الدين، بين الخاص والعام فهو بالضرورة إسلام سياسيّ من النهضة ومن غيرها.
بعيدا عن تنظيرات الباحثين في الخطاب الدينيّ وجماعة "علم" الأديان المقارن، الإسلام كتاب مقيم بين أهله يُلزم الذين ينتسبون إليه طواعيةً بمنطوق خطابه، وخطاب القرآن كله في السياسة. وجماعة اليسار التونسي يعون ذلك جيدا، ويعبّر عن وعيهم قولُ أحدهم في شأن قياديّ من التيار القوميّ لإدانته "إنّه شوهد يخرج من مسجد" !
من حقّ هؤلاء أن يروا المساجد تُقرأ فيها فاتحة الكتاب أوكارا للإسلام السياسيّ. لسان حالهم يقول إنّك يمكن أن تقف في صفّ الصلاة بجنب قاعديّ أو داعشي. وإذن، فأولى بك أن تعتبر كلّ مصلّ بالمسجد داعشيا، إذ لا وقت لديك لتفتّش في الضمائر وتستمع إلى تفاصيل الخطاب. دع المساجد وإن استطعت أن تغلق مسجدا فلا تتردّد.
وأوضح من ذلك قول أحد مثقفي اليسار: "الحقيقة التي وصلت إليها بعد سنوات من البحث أنّ الشعب في عمق داخله إسلام سياسيّ"
بل لقد قال بعضهم "ما دامت اللغة العربية هي اللغة الرسمية وهي لغة التواصل الرئيسة، فكلُّ محاولات القضاء على مثل هذه الظواهر (الحديث كان عن انتشار ظاهرة الخمار لدى النساء) ستبوء بالفشل". ولا أزال أذكر حديثا للقيادي النقابي سامي الطاهري، قبل 25 جويلية، قال فيها وقتها بالحرف، إنّ قيس سعيد إسلام سياسيّ" !
الجماعة واضحون جدّا. الشعب يقرأ القرآن، والقرآن إسلام سياسيّ. واللغة العربية هي المسؤولة، لأنها لغة القرآن. والقرآن هو مرجع الإسلام السياسي. هاهنا مأزق.
هذا المأزق فهمته الامبريالية الأمريكية في حربها على التنظيمات التي أعلنت الجهاد ضدّ وجودها في منطقة الجزيرة العربيّة.. وقتها اشتغلت مع بعض أتباعها والدائرين في فلكها على إعادة كتابة القرآن. فوضعوا في سنة 1999 مؤلَّفا دعوه "الفرقان الحق" أرادوه أن يكون كتاب المسلمين البديل الذي يحاربون به "القرآن السياسيّ".
أعداء "الإسلام السياسيّ" في تونس هم ربائب الامبريالية الأمريكية، وهذه وريثة الكولونيالية مثلهم تماما لا فرق بينهم وبينها إلّا في العناوين والعناوين مخادعة.
5. حركة النهضة حزب سياسيّ كان، تقريبا، هو القطب الذي تدور حوله المعركة السياسية منذ زمن بورقيبة. ولمّا جاءت الثورة بالحرية وجد أبناء النهضة أنفسهم في الدولة ولم تعد المعتقلات والمنافي قدرا مكتوبا عليهم بقلم الدولة. منهم من أحسن ومنهم من أساء، وربما كان من بينهم سيئون كثيرون شأنهم في ذلك شأن أبناء الشعب التونسي الذين يلعن بعضهم بعضا. الإسلاميون لم يأتوا من كوكب آخر، نشأوا مثل غيرهم، في أُسرٍ تونسيّة محافظة ودرسوا في المدارس التي درس فيها غيرُهم. وكونهم متديّنين ليس شرّا إلا أن يكون الدين شرا والمتديّن باللزوم شرّيرًا.
6. هل الإسلاميون ديمقراطيون؟
أظنّ أنّهم مثل غيرهم سواء بسواء. يمكنك أن تجد إسلاميا ديمقراطيا وآخر غير ديمقراطي وكذلك اليسار والليبراليون. من هؤلاء ديمقراطيون ومنهم غير ديمقراطيين. الدين ليس عائقا ديمقراطيا. المتدين الذي يرى الدين شأنا أخرويًّا سينصرف بتديُّنه إلى ترتيب آخرته. أمّا الذي يرى الدين دنيويا فسيدرك أنّ كلّ ما في الدنيا نسبيّ ولا أحد من بني البشر موصول بالسماء وحده ليفرض على غيره ما يرى. وما يُنسب إلى الإسلاميين من كونهم يتحدّثون باسم السماء ليس دقيقا. وعلى أيامنا، لم يعد الدين تجارة رابحة. الدين ثقيل على المتديّنين، لأنّك لن تجد متديّنا مطمئنّا. الطمأنينة حمق، والدين نقيض الحمق. ومن الحمق أن يرى المرء نفسه وصيّا على غيره. الدين يعلّمك أنّك لست وصيّا حتى على نفسك.. فكيف تدّعي وصاية على غيرك.
7. قلت الإسلاميون، في علاقتهم بالديمقراطية مثل غيرهم. الدين لا يهدي معتقديه إلى الديمقراطية ولا يصرفهم عنها. ولكن يمكن أن أقول إنّ الإسلاميين مستفيدون من الديمقراطية، لذلك يدافعون عنها. قل إنهم محمولون على الديمقراطية لأنّها تسمح لهم بالوجود وربّما بالحكم داخل المربّع الذي تمليه عليهم. ولقد اتّخذ أبناء النهضة من الديمقراطية عقيدة لهم ووثقوا في تعاليمها إلى حدّ السذاجة. ولعلّني لا أبالغ حين أقول إنهم دراويش الديمقراطية. دخلوها بسذاجة جرّدتهم من مخالب يحتاج إليها أهل الديمقراطية للدفاع عنها. الإسلاميون في تونس يخشون من الوصم فيجتنبون كلّ طريق إليه. هم مسكونون بالرعب من وصوم الخوارج والقاعدة وداعش وطالبان. لقد نجح الإعلام العالميّ في الربط بين الدين الإسلامي وبين الإرهاب حتى صار كلّ مسلم يتحسّس رأسه مخافة أن يتلبّس به الوصم بالإرهاب. ومن ذلك دخل خصوم النهضة عليها. واستعملوا الاغتيالات للتخلّص منها مثلما فعلت أمريكا في مناطق عدّة، ومثلما تفعل الدولة العبرية الآن بحماس. ألم تقل عنها "داعش" لتؤلّب العالَم عليها؟
8. أخطأت النهضة حين ظنّت أن خصومها يمكن أن يقبلوا بها في ناديهم الديمقراطيّ الحداثيّ المغلق. وأخطأ خصومها حين ظنّوا أنّ الديمقراطية يمكن أن تزهر في غياب حركة النهضة. كانت الحصيلة هي هذا الانقلاب الذي قتل كلّ أسباب الحياة. لقد أرضى خصومَ النهضة بأن ألقى بقياداتها في المعتقلات بلا تُهَم، ولكنّه أمعن في التنكيل بهؤلاء الخصوم وقد صاروا بلا ظهر يمكن أن يستندوا عليه. لقد كانت النهضة ظهرهم واحتملت جميع جرائرهم ورضيت بتهافتهم ببعض الصبر وبكثير من السذاجة والدروشة حين رأت فيهم شركاء ورأوا فيها عدوّا وجوديا وجب استئصالُه.
9. الآن، استوى الماء والخشبةَ. وحتى المعاندون الأشدّ شراسة من بينهم لم يكلّفوا أنفسَهم عناء الاعتذار بل توغّلوا في عنادهم بسخرية فجّة رضوا فيها باعتبارهم "مواطنين درجة ثانية" أمام "سوبر مواطنين". لو كان لتلك الناشطة لسان محمّد مسليني القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي الوحدويّ في زمن بن علي والقيادي في نسخته المعدّلة حركة الشعب في زمن الثورة، لو كان لها مثل لسانه لقالت إنّها "لا تلتقي معهم حتّى في الجنّة"، قال ذلك حين سئل عن إمكان التحالف مع حركة النهضة في تشكيل الحكومة إثر انتخابات 2019 التشريعيّة.
10. هذا الذي يعيشه الجميع ليس أكثر من حصاد لأعمال هؤلاء طيلة عشر سنين. كان جدار الديمقراطية يقام في عين إعصار، وكانوا هم يحملون معاول لتخريب الجدار. ولقد نجحوا في أداء الوظيفة على أتمّ وجه. الآن يقفون أمام أنفسهم ليروا على ما فعلوا وليصلحوا ما أفسدوا، إن اعترفوا بأنّهم قد أفسدوا، ولا أراهم يفعلون.
تراب العاصفة سيردمهم. أمّا النهضة فستنهض من تحت الأنقاض كما فعلت غير مرّة لتلعق جراحها وتتخطّى أعطابها وتعود إلى الدنيا أكثر نضجا وأقدر على مجابهة العواصف.
من سوء حظّ النهضة أن كان هؤلاء شركاءها، ومن حسن حظّ البلاد أن كان بها النهضة.. لا تزال تحنو عليها، ترى في نفسها أمّ الولد.. والأمّ، رغم ويلاتها، تصطبر.
(( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ))
تاريخ أول نشر 2024/9/7