search

وثيقة: الإسلاميون والميثاق الوطني

تقديم

تقديم

تكتسب هذه الوثيقة أهميتها من حيث أنها تبرز الرؤية السياسية للحركة القائمة على فكرة التوافق والتعايش بين أبناء الوطن. وتعد توطئة الوثيقة تأصيلا نظريا لفكرة التوافق. كما يبرز في الوثيقة أيضا الموقف من مسألة الهوية ومن الديمقراطية والحريات. كما تعد التوطئة وباب الهوية وباب الديمقراطية والحريات أهم ما تضمنته، إذ عليهم تأسست الرؤية السياسية لحركة النهضة (حركة الاتجاه الإسلامي في ذلك الوقت). وظل ذلك الخط السياسي يتعزز مع الزمن ومع التحديات التي واجهتها الحركة، برغم مرورها بمنعطفات عسيرة لا سيما إثر المواجهة التي اندلعت مع النظام بعيد توقيع الميثاق. أما الباب الثالث حول التنمية والباب الرابع حول الولاء الوطني والعلاقات الخارجية فبرغم أهمية الأفكار التي عبرت عنها الوثيقة إلا أنهما اقتصرا على العموميات التي لا تبدو فيها رؤية استثنائية خارج المواقف العامة المعهودة.

ما يلفت الانتباه في المساهمة هو الحديث المتكرر عن المجتمع المدني، ولكنه ليس بالمفهوم الذي شاع فيما بعد، إثر اختطافه من الدوائر الغربية وتحريفه باجتراح قواعد نظرية له تجعله مقابلا للدولة ولـ "المجتمع السياسي الحزبي" وليتم من خلاله تمرير الأجندات السياسية والثقافية الغربية. لقد كان مفهوم المجتمع المدني في تلك الفترة يمثل المقابل لمجتمع "حكم الفرد" أو "حكم العسكر" أو "حكم الأوليغارشية" أو "الحكم الثيوقراطي". وهو امتداد لمفهوم المجتمع الذي كان مجال الاهتمام النظري في عشريتي السبعينات والثمانينات باعتباره مقابلا لـ"الدولة التسلطية".

لقد ولدت فكرة الميثاق الوطني في دوائر الحكم، واستقبلتها المعارضة قبولا حذرا، لما اتسمت به من تسرع. حيث أعلن عنها قبل ذكرى السابع من نوفبر بحولي شهر سنة 1988، على أساس أن يتم توقيعها في الذكرى.

لم تخف الحركة خشيتها من طابع التسرع، ولكنها انخرطت في المبادرة. ولما كانت الحركة غير معترف بها قانونيا، فقد تم الاتفاق على أن تشارك في شكل شخص يمثلها ولكنه من الناحية الرسمية سيوقع باسمه. كان النظام حريصا على أن من يمثل الحركة لا يجب أن يكون معروفا من قياداتها العلنية، ولذلك تم الاعتراض على اسم الأستاذ بنعيسى الدمني، فلجأت الحركة إلى اقتراح الأستاذ نورالدين البحيري، حيث لم يكن من قيادات الحركة البارزة علنيا.

طبعا لم تخرج وثيقة الميثاق بالطريقة التي انتظرتها المعارضة، ولكنها قبلت بها. كانت اللجنة التي أشرفت على إعداد الميثاق التي ترأسها محمد الشرفي حريصة على وضع لمساتها في الوثيقة، مع الاستجابة لما يطمح إليه "قائد التغيير" من إضفاء الشرعية عليه بشكل مباشر وغير مباشر. وقد تناولت أقلام كثيرة في تلك الفترة الميثاق بالنقد العميق. ولكن الأهم أن الميثاق وفكرته وئدت مبكرا مع تزييف الانتخابات التشريعية، وتم تجاهله شيئا فشيئا، وحل محل الميثاق والتوافق الاستثناء والاستئصال مع الحركة، الذي انخرط فيه قطاع واسع من النخبة العلمانية اليعقوبية واليسار الاستئصالي وعلى رأسهم رئيس اللجنة التي أعدت الميثاق محمد الشرفي.

تكتسي الوثيقة أهمية بالغة للباحثين وللمهتمين بالشأن السياسي التونسي وللحركة الاسلامية، وكما أنها تصلح لتمحيص الماضي فهي تصلح أيضا لقراءة الواقع الحالي، فالماضي كما قال ابن خلدون "أشبه بالحاضر كالماء بالماء".

عرض الوثيقة

الجمعة 3 ربيع الأول 1409                                         

         14 أكتوبر 1988

الإسلاميون والميثاق الوطني

الأستاذ نورالدين البحيري

                                                                             تونس

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) آل عمران.

توطئة

إذا كان الاجتماع البشري تمليه وتقتضيه ضرورات العيش والحاجة الفطرية إلى التساكن والتعاشر والتكامل، فإن هذا الاجتماع معرض للانخرام والانفراط، ما لم تقم على تنظيمه شرائع تتولى ضبط العلاقات ببن أجزائه، حقوقا وواجبات، قائم عليها سلطان يزع الناس بعضهم عن بعض، و يكون في خدمتهم وعونهم، إنفاذا لما توافقوا عليه لحفظ وترقيه اجتماعهم .

لقد كشف علم الإنسان (الأنتروبولوحيا)، أن أقدم مصدر لتقنين العلاقات البشرية هو الدين، اذ ليس الدين فى محصلته النهائية العملية سوى رباط أو ميثاق يربط علاقة الخالق بالمخلوق من جهة وعلاقة الناس بعضهم ببعض وعلاقاتهم بسائر الموجود من جهة أخرى. و لذلك لم يكن بدعا أن كانت الكلمة الجامعة لعقائد الاسلام - وهو خلاصة رسالات السماء كلها – وشرائعه وأخلاقه لا تعدو كونها ميثاقا أو عهدا بين المخلوق والخالق، تنبثق منه جملة العهود الأخرى .. "أشهد أن لا الاه الا الله". فمن هذا العهد انبثقت جملة المواثيق التى أخذها الله على الانبياء، وأخذها هؤلاء على أتباعهم. وعن هذا العهد الاختياري بين المؤمن وربه ينبثق أيضا بشكل اختباري عهد آخر بين المؤمن والجماعة (بمعناها السياسي) هو البيعة. والمتتبع لتاربخ تكون الجماعة المسلمة - نواة الأمة - يتوقف عند محطة هامة، هي انتقال الإسلام بالجماعة من مرحلة الدعوة الى مرحلة الدولة. وهى نقلة قد قامت على تواثق بين الرسول عليه الصلاة والسلام كقائد للجماعة وبين ممثلي المهاجربن والانصار فى العقبه. فلما انتقل الرسول القائد الى يثرب وكانت على تركيب اجتماعي معقد تتجاور فيه ديانات وأعراق مختلفة، لم يكن بد لتنظيم شؤون هذه الجماعة السياسية بما يضمن لهذا الجمع المختلف وحدة سياسية تضمن للجميع المواطنة حقوقا وواجبات، ولدعم أسس الوحدة الوطنية فى الدولة الجديدة، من وضع ميثاق ينظم التعايش والتعاون بين مختلف أجزاء التركيب لهذه الأمة السياسية الناشئة. فكانت "الصحيفة " هي عنوان الميثاق الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم  - لتنظم وترتيب شؤون (الدولة - المدينة) - فى مختلف المجالات الحيوية.

وتعد الصحيفة أقدم وثيقة تاريخية لأول دستورسياسي مكتوب فى التاريخ البشري، يتولى تنظيم شؤون (دولة - مدينة)، تنظيما لا يقصي ولا يظلم طرفا إجتماعيا على أساس الدين أو أي أساس آخر ( مهاجرين وأنصارا.. . يهودا على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم، ومشركين على اختلاف قبائلهم.  لقد وقع الجميع من خلال زعمائهم على الصحيفة، فانبثقت من ذلك أمة واحدة ذات كيان مستقل. كما نصت الصحيفة على أنه لا يظلم فيها أحدا، ويتآزر الجميع على حفظ النظام والدفاع عنه، ولا يوالي عليها الأجانب عنها ولو من أبناء دينه وجلدته (والذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيئ حتى يُهاجروا)[1].  

ولذلك تمثل " الصحيفة "فضلا من أهميتها التاريخية من حيث كونها أول دستور مكتوب يتولى تظيم شؤون مدينة تنظيما يعترف صراحة بالتعددية فى إطار الوحدة الوطنية، تمثل خير سند لتأسيس مبادئ النظام والحرية والعدل والتكافل والهوية، بما يحفظ الاستقلال الوطني ويتسع لقبول الاختلاف في اطار الوحدة ولا ينغلق هذا الاجتماع بل ينفتح على المحيط الثقافى والإتسان. ولذلك كان من خطل الرأي وتزييف وقائع التاريخ وبخس أمتنا حقها، الظن بأن محاولات المسلمين فى العصرالحديث، ومطالباتهم نخبة وجماهير وضع مواثيق ودساتير تنظم علاقات المواطنة حقوقا وواجبات وتقيد سلطان الحاكم، هي مجرد أعمال منبتة عن ديننا وتراثنا وليس لها من مصباح تستظل به الا التقليد الغربي. كيف نظن بأمة قامت ثقافتها وقام إرثها التشريعي العظيم وكذلك الفلسفي على الحرب الشاملة ضد الاستبداد (من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر)، انتصارا لحرية الفرد وكرامته وأهليته لخلافة الله سبحانه وتعالى وحمله للأمانة أمانة الحرية وتقرير المصير على المستوى العقائدى (لا إكراه في الدين)[2]، وعلى المستوى الاجتماعي (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)[3]، وعلى المستوى الإداري عامة (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا)[4]. كيف نظن بأمة قامت في أول (دولة - مدينة) في التاريخ على بيعة الرضا، وعلى الميثاق (الصحيفة )، ميثاق التعايش والتناصر بين مختلف مذاهبها وأعراقها، أن يكون حديث أبنائها اليوم على الحرية في إطار الاحترام وحقوق المواطنة على التساوي في إطار التعددية السياسية والفكرية وحق الاختلاف في إطارالمجموعة الوطنية، هو ضرب من الانتهاز أو الانبهار أو الموقف العابر؟

الإسلاميون وفكرة الميثاق

كان من الطبيعي بعد أن تكثفت دلائل فشل المشروع البورقيبي، أن يدب الشك فى جملة المسلمات التي نهض عليها ذلك المشروع، من الوحدة القومية وفى إطار الحزب الواحد والزعيم الأوحد. وكان  من الطبيعي أن تبرز تيارات سياسية وفكرية على أنقاض تلك الايديولوجية  حتى إن كان التباين معها جزئيا في أحيان كثيرة.

وإزاء الفسيفساء التي برزت على الساحة مع نهاية السبعينات، أصبحت الخشية حقيقية على وحدة الجماعة الوطنية أن تذهب بها رياح التشتت والخلاف. إزاء ذلك تداعت أصوات كثيرة من مختلف المواقع السياسية والفكرية إلى الدعوة إلى "صحيفة" جديدة أي إلى ميثاق وطني، يضبط أصولا وقواعد ينهض عليها المجتمع التعددي ديمقراطيا.

ولقد كان الإسلاميون من بين الحركات الأساسية قد اشتركوا في هذه الدعوة، مؤكدين على ضرورة الميثاق، وأنه لا مصدر حقيقي للمشروعية غير إرادة الجماهير. وكانت أهم الوثائق التي حملت ذلك الموقف بيان الحركة سنة 1981 والمعنون "التعددية حق والجماهير هي المحدد لشروط ممارسته"، وذلك نبذا لكل طرائق المن على الشعب ومحاولات فرض الوصاية عليه من خلال إيديولوجية الحاكم.

ولم تنجح إرادة الظلم والاستبداد في فرض الاستسلام على الشعب، حتى جاء 7 نوفمبر الذي أتبع بمبادرة رئيس الدولة بالدعوة إلى وضع ميثاق وطني يجمع ممثلي مختلف التيارات الفكرية والتنظيمات السياسية والجمعيات المهنية والاجتماعية حول مائدة الحوار للإتفاق على الحد الأدنى الذي يجمع التونسيين بمختلف انتماءاتهم في هذه المرحلة من تاريخ البلاد. ولقد عبّرنا منذ أول وهلة عن تقديرنا لهذه المبادرة باعتبارها جسدت إرادة فعلية في طى صفحة الماضي وإحلال لغة الحوار محل لغة الإقصاء، كما عبّرنا عن قناعة مبدئية بأن المشاركة في تحديد ملامح حاضر تونس ومستقبلها حق لكل التونسيين بدون استثناء. وإننا وإذ نؤكد من جديد تجاوبنا التام مع ماجاء في رسالة  السيد رئيس الدولة حول الميثاق في افتتاح أعمال اللجنة العليا، وما عبرت عنه من تأكيد على أن الميثاق المنشود ليس برنامج حكومة ائتلاف ولا هو بديل عن دستور البلاد بل هو إتفاق يسعى إلى جمع إرادة كل التونسيين عن طواعية حول حد أدنى من المبادئ وعقد أدبي لا إقصاء فيه ولا احتواء. فإنه مع هذا لا يفوتنا التنبيه إلى أن في نفوسنا بعض خشية من طابع الاستعجال الذي يمكن أن يحد من الآمال المعقودة على هذه المبادرة، دون أن يمنعنا ذلك من تقديم ورقة متواضعة دفعا للحوار وعملا على تعميقه، وهي وجهة نظر نعرضها للنقاش والدرس والتمحيص.

والله الموفق لما فيه الخير  

الباب الاول : الهوية

ان الحديث عن الهوية الحضارية للمجتمع التونسي، يكتسي أهمية خاصة فى هذه المرحلة بالذات من تطور بلادنا، التي يقف أبناؤها اليوم لاستشراف سبل النهضة والنماء، بعد أن زال كابوس الحكم الفردي. لذا يتعين التأكيد على أن مبدأ "دعم هويتنا" ليس مجرد شعار مرحلي أو ورقة سياسية ذات وظيفة مؤقتة تنتهي بتغير موازنات سياسية معينة، بل هو مبدأ أصيل ودائم يستمد مشروعيته وأهميته من ارتباطه بأبعاد مصيرية تمس كيان المجتمع وتتوقف عليها مناعته وتقدمه.  ومن هنا تتاكد ضرورة تحديد مضمون الهوية الحضارية المطلوب دعمها وصيانتها، حتى تتبلور استتباعات ذلك سواء على صعيد الالتزام الذاتي أو في مستوى النتائج الموضوعية المنجرة عن ترسيخ  هذه الهوية.

مفهوم الهوية:

اذا كانت هوية أي شيء تعني جملة الخصائص التي بها يقوم وجوده في ذاته، وعلى أساسها يتميز عن غيره من الأشياء، فيمكن بذلك تعريفه بدقة وجلاء كما يقول علماء المنطق. فان هوية تونس الحضارية متشكلة من مجموع الخصائص والمقومات الفكرية والأخلاقية والتنظيمية التي يتوقف عليها كيان مجتمعنا ،ويختص بها عن سائر المجتمعات، أو يشترك فيها مع غيره كليا أو جزئيا. وهي خصائص ومقومات قد اكتسبها شعبنا تاريخيا، فتبلورت تدريجيا عبر القرون، وغدت عماد "شخصيتنا الأساسية" ومعطى موضوعيا في واقعنا الحديث.

وإذن فان هذه الهوية لست مفارقة لواقعنا الاجتماعي أو متعالية عليه، وانما هي منضبطة داخله، متأثرة بصراعاته ومؤثرة في صيرورته، بحيث أن كل فرد فى هذا المجتمع يظل خاضعا لها سواء أراد ذلك أم أباه. إنها تتجلى في إيمان الناس بالله وبالرسالة وبالغيب، وفي تكيّف السلوك الاجتماعي العام بقيم ظلت منضبطة لموازين الحلال والحرام المتأصلة في الضمائر. وتبرز مظاهر ذلك وآثاره جليّة فى لغتنا الوطنية التي نجدها مثقلة  بشحن دلالية تعكس تلك المعتقدات والقيم والموازين وترسيخها. بحيث لا تكاد تخلو عبارة لغوية من الإحالة الى دلالة عقائدية أوأخلاقية تفرض نفسها على كل مستعمل للغتنا حتى وإن كان غير منسجم مع تلك المضامين الدلالية المتداولة.

وبناءا على هذا المعطى، فإن دعم هويتنا الحضارية ليس تجنيحا فى عالم المثل أو محاولة للتعسف على الواقع بإخضاعه قسرا لجملة من الأفكار المجردة، وإنما هو جهد منبثق عن نزعة واقعية تستند إلى استقراء موضوعي لبيئتنا الاجتماعية والثقافية واستخلاص أهم عناصر القوة التي تميزها قصد استنادها. وعلى العكس من ذلك فإن التعسّف على الواقع يكمن في التنكر للهوية والسعي لاستبدالها.

مقومات هويتنا

إن تحديد مقومات الهوية الحضارية للبلاد التونسية يقتضي بالضرورة القيام بعملية استقراء تاريخي، يتجلى من خلالها أن تونس قد تتابعت عليها عبر التاريخ حضارات عديدة أثرت فيها بأقساط متفاوتة وفي اتجاهات متنوعة، إلى أن حل بها الفتح الإسلامي فأمكن للحضارة الإسلامية أن تشيّد نفسها على هذه الأرض وأن تطبع المجتمع التونسي بخصائص باقية على أصعدة العقائد والقيم والعلاقات والعادات واللغة العربية، ففي حين لم يبق من الحضارات التي سبقت دخول الإسلام سوى بعض الآثار المادية والأطلال المغمورة وما عساه أن يكون قد تساوق مع قيم الإسلام ونظمه فغدا جزءا من ثقافته، ظلت الحضارة الإسلامية حاضرة فينا كرصيد نفسي متفاعل وقيم سلوكية محترمة ونظم تشريع ومؤسسات فاعلة.

فالاعتبارات التاريخية والواقعية معا تقضي بأن الإسلام والعروبة هما عماد هويتنا الحضارية. فقد ظل الاسلام كدين مصدرا لعقائد الناس ولتصوراتهم الفكرية، ومعينا ثريا لقيم الحق والخير والعدل والحرية، بما يجعله دائما أسلم منهج للحياة، قادرا على أن يوفر لمجتمعنا مزيدا من النهضة والتقدم في مجالات المعرفة والسلوك وتنظيم العلاقات، وأن يكون أساسا متينا لضمان حقوق الانسان خليفة الله في الأرض والمتميز عن سائر الموجودات بتكريم خصوصي (ولقد كرّمنا بني آدم)[5] وسيأتي تفصيل ذلك في بقية أبواب الميثاق.

ويجدر الانتباه الى الفرق القائم بين الإسلام كعقائد وقيم وتشريعات متضمنة في القرآن والسنة، وبين التراث الإسلامي الذي كان حصيلة تفاعل العقل المسلم مع الواقع التاريخي المتغير. فلئن استلزم دعم الهوية استلهام الاسلام في ذاته، فإن استثمار التراث الإسلامي الذي لا يزال حاضرا فينا يحتاج الى جهد تحليلي ونقدي حتى تتمايز القيم الخالدة التي يتضمنها عن الخصوصيات الظرفية والاجتهادات المحكومة بحدود الزمان والمكان وبقصور الإنسان وخطئه أحيانا.

أما فيما يخص الدعامة الثانيه لهويتنا وهي العروبة، فإنه لمن فضل الله تعالى أن لم تعرف بلادنا تاريخيا مشكلة التعارض بين نزعة عروبية وأخرى إسلامية، نظرا لما تميز به مجتمعنا من انسجام في تركيبته الثقافية ونسيجه التنظيمي، وما أحدثه الإسلام من صهر كل الفئات ضمن منظور عقائدي ونظام سلوكي واحد بعيدا عن أي لون للطائفية. ولقد كان من آثار الفتح الإسلامي أن تعرّبت بلادنا وسائر بلاد المغرب بصورة نهائية، فباتت العروبة تبعا لذلك تمثل الوجه الثاني لهويتنا، وتتلازم مع الإسلام وجودا وعدما، على اعتبار أنها بمثابة الإطار الذي يحتوي مضامينه الفكرية، فينقلها ويضمن دوامها مثلما تنقله وتصونه. وإذا فليس لهذا الإطار العربي من معنى إذا ما تم شحنه بمضامين فكرية من شأنها أن تجعل من العروبة إيديولوجية قائمة بذاتها لا مجرد خصوص من عموم، وتقدم نفسها بديلا عن الإسلام، وتعتبر أن "الدين لله والوطن للجميع". فهذا التصور فضلا عن كونه منبثقا من فهم خاطئ لوضع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وبالتالي فهو قد نشأ في بيئة مشرقية مغايرة لبيئتنا، هو تصور يقلص من أبعاد الانتماء الحضاري ويحد من آفاق العمل الوطني فيقصرها على المنطقة العربية دون بقية بلدان الوطن الاسلامي. وهو لعمري خسارة للعرب قبل غيرهم، حيث أنهم يحرمون أنفسهم وفق هذا التصور التجزيئي من أرصدة أمنية واقتصادية وحضارية هائلة متوفرة في المحيط الإسلامي.

الدور التاريخي والحضاري لهويتنا:

لئن اعترت بعض فترات تاريخنا الإسلامي عوارض تخلف تستحق التحليل والنقد، فان جوهر المضمون الحضارى الذي ورثناه عن الماضي قد صاغ بلادنا بصورة نهائية.

فقد عرفت تونس محاولات عديدة لطمس هويتها والنيل من مناعتها، بدءا بالحملات الصليبية التي تم دحر آخرها على مشارف قرطاج، ومرورا بالاستعمار المباشر الذى سعى بواسطة حملات التبشير ونشر الثقافة الفرنكفونية إلى تنصير شعبنا وإلحاقه ثقافيا، بعد أن جزأ الوطن الكبير وزرع بذور الفرقة والتذرر، وانتهاء بالغزو الفكري والاستعمارى الثقافي المعاصر الذي يعمل على نشر عقلية التحلل من الدين ومن الأخلاق وعلى ترسيخ قيم الاستهلاك واللهو والأنانية  واللامبالاة .

لكن تمسك شعبنا بهويته الإسلامية العربية كان أهم عامل في إفشال تلكم المحاولات كلها وصيانة كياننا عبر التاريخ. حيث أدت الثقافة المنبثقة عن الجامعة الزيتونية وظيفة الحفاظ على التجانس الفكري والوحدة الاجتماعية، والتصدى لحملات المسخ وشق الصفوف. وكانت قيم التحرر والعزة والجهاد المتضمنة فى الاسلام أهم حافز لمقاومة شعبنا ضد المستعمر الفرنسي وضد الحكم الفردي.

واذا كانت وظيفة الإسلام كدين وكتراث في مراحل ضعف مجتمعنا وتراجعه متسمة بالمحافظة على وحدة كيانه وعلى استقلاله، فان هذا الدين قد اضطلع في مراحل قوة المجتمع ومده بوظيفة التحفيز على العمل والنهضة والتقدم، وهو بذلك قمين بأن يندرج اليوم في نفس هذا المنحى، فيوفر رصيدا إيجابيا للانطلاق ببلادنا على طريق النهضة بتحقيق شرطين متلازمين من شروطها وهما:

1-  المناعة الداخلية لمجتمعنا بترسيخ الثقافه وإقامة العلاقات داخله على قواعد التضامن والتآخي والعدل والإحسان (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر)[6]، بعيدا عن العصبيات أيا كان نوعها إذ (ليس منا من دعى إلى عصبية)[7]، وبعيدا عن المظالم الاجتماعية والحيف السياسي لأن (الناس سواسية كأسنان المشط)[8]، وفي كنف ترسيخ قيم العمل الصالح الذي تزكو به إنسانية الإنسان.

2-  ضمان عزة مجتمعنا، معنويا باعتزاز كل أبنائه بخصوصياتهم الحضارية أي بالإسلام وبتراثه الإيجابي وبالعروبة بما يخدم تحررهم من عقد النقص وشعور الانهزام إزاء الحضارات الأخرى، وسياسيا بتوفير المقومات الحقيقية لقوة البلاد واستقلالها عن محاور الاستقطاب العالمي والهيمنة الدولية. علما بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بدعم الوعي بالانتماء إلى الاسلام وأمة المسلمين، وتجسم ذلك الوعى في واقع من التعاون والتكامل الاقتصادي والسياسي بين بلدان المغرب والمنطقة العربية والوطن الإسلامي الكبير تحقيقا للوحدة التي هي أساس الاستقلال الحق وضمانة أمن البلاد وقوتها وتقدمها.

مستلزمات دعم الهوية:

إذا تأكد أن الإسلام والعروبة هما عماد هويتنا الحضارية التي كان لها دور حاسم في ضمان وحده نسيج مجتمعنا وحماية كياننا عبر التاريخ، أمكن القول أن الالتزام بدعم هذه الهوية هو شرط لازم لكل نهضة ضرورة. إن إغفال هذا الشرط قد كان في العهد السابق عاملا أساسيا فى فشل خطط تنموية على أكثر من صعيد، وفي إحداث مشاكل وأزمات اجتماعية وسياسية كادت تؤدي بالبلاد الى حالة من الفوضى والدمار.

وإن الوفاق الحاصل اليوم مبدئيا بين مختلف العائلات الفكرية والتيارات السياسية حول حتمية تفادي هذا الخلل الحضاري واعتماد الهوية قاعدة للنهضة، يستلزم سعى الجميع الى مراعاة مقومات هذه الهوية كلما تعلق الأمر بتحديد أنماط المعرفة والسلوك والعلاقات التي ننشد إرساءها داخل مجتمعنا، أو كلما تم التفكير في نوع الانتماء الوطني وضوابط العلاقات الخارجية بما يضمن استقلالنا الأمني والحضاري ويكون ذلك عمليا بتحقيق ما يلي :

1-  احترام عقائد الاسلام وأحكامه ونظمه وحسن التعريف بها في برامج التربية والتعليم وفي محتوى وسائل الإعلام ومن خلال مختلف المناشط الثقافية والتوجيه الدينى التزاما بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان)[9].

2-  إشاعة قيم الاسلام السلوكية داخل المجتمع من أجل إيجاد المواطن الصالح الذي يحمل أمانة خلافة الله فى الأرض ويجهد نفسه لتعمير الكون بالكدح واقامة العدل (ولقد كتبنا فى الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)[10].

3-  احترام مشاعر المؤمنين بعدم الإعتداء المادي أوالمعنوى على شعائر الإسلام وقيمه ومؤسساته واحترام مبدأ حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية.

4-  أن تكون التشريعات والقوانين في مختلف مجالات الحياة ملتزمة بدستور البلاد الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة.

5-  إيلاء الاجتهاد المكانة التي يستحقها ضمن دائرة الإيمان وبشرط الكفاءة العلمية حتى يمكن استيعاب كل مشاكل الواقع الحديث والاستفادة من الإنجازات البشرية المعاصرة التي تتماشى ومقاصد الاسلام العامة في تحقيق المصلحة للعباد، وذلك في فهمنا هو مناط صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان.

6-   تعريب التعليم والإدارة بأسلوب جاد وشامل، على نحو أن لا يقف الأمر عند حد استبدال لغة بأخرى في نقل المعلومات والتخاطب، بل يتعدى ذلك الى مستوى النضال الناصب من أجل صيانة الكيان ورفع تحديات الاستعمار الثقافي، بما يستتبع تلازم التعريب في مجال التعليم مع تحسين المضمون المعرفي في اتجاه اعتماد المناهج العلمية الحديثة والاستفادة من نتائج العقل البشرى في كل مجالات المعرفة والتقنية.  فالتعريب بهذا المعنى يستلزم امتلاك الباحثين للغات أخرى تكون وسائل لتعريب المعرفة وإثراء البحث العلمي ودعم التقدم التقني في بلادنا.

7-   دعم كل مبادرة أو توجه يهدف الى تجاوز واقع التجزئة الذي يعيشه العرب، والعمل على تحقيق وحدة عربية تتوفر لها قواعد الجدية والدوام وتكون سبيلا الى وحدة أشمل في إطار الوطن الإسلامي الكبير، اذ لا مستقبل في عالم اليوم للكيانات الوطنية الضيقة، حيث يفرض واقع التكتلات العالمية الأخذ بأسباب البقاء والأمن ضمن إطار حيوي أوسع.

خاتمة

إن اشتراك كل التيارات الوطنية في الالتزام بدعم هويتنا العربية الاسلامية بقدر ما هو ضرورة نهضوية وسبيل الى ضمان مناعة كياننا الوطني وفتح أفق التقدم، لا يجب أن يفهم على  أنه إعدام للذاتية السياسية ألتي يختص بها كل تيار، وإنما هو في حقيقته وفاق وطنى على جملة من الثوابت العامة فى شخصيتنا الأساسية، يجوز الاختلاف ضمنها حول تحديد الرؤى الفكرية وصياغة البرامج السياسية واستنباط الحلول العملية لمختلف مشاكل البلاد وذلك هو  مضمون التعددية التي تجد أصولها فى مبادئ الإسلام وفي تاريخ المسلمين الذي شهد تنوعا فكريا وتعددا سياسيا أسهم في إثراء التراث وفي امتداد الأمة ووحدتها.

وإن هذا التصور للهوية إذ يوفر أرضية مشتركة لكل الأطراف الوطنية، من شأنه أن يصوغ نمطا للمجتمع يقوم على الوحدة بين الدين والحياة، ويستبعد تلك المفاهيم المثنوية الغريبة عن ثقافتنا . فتتنزه الممارسة السياسية وفق هذه الرؤية عن الأسلوب الميكيافيلي وترتبط بالأخلاق وبخدمة المصلحة العامة. وهو لعمري من أهم الحوافز الذاتية على العمل والنهضة والتقدم.

الباب الثاني : الديمقراطية والحريات

إذا كان من دواعي الشرف والاعتزاز أن وُلدنا فوق هذه الرقعة الزكية، وأن انتسبنا الى هذا الشعب الأبي العربي المسلم المؤمن بمكانة الإنسان وبحقوقه، فإنه من الخطإ الحسبان بأن الديمقراطية فكرة مستوردة أوبديل مسقط على واقعنا بخاصياته الجغرافية والحضارية والمحلية. ذلك أن الديمقراطية بما هي احترام للحريات الفردية والعامة، وإيمان بحق الاختلاف بين أبناء الشعب الواحد، واقتناع بحق كل فرد في المشاركة في الحياة وتحديد مستقبل البلاد، وبحقه في الشغل والحياة الكريمة، تمثل بهذا المعنى قيما أصيلة لها مكانتها الخاصة في شخصية شعبنا الوطنية العربية الإسلامية.

1-  الديمقراطية قيمة حضارية أصيلة:

إنه وفي نفس الوقت الذي نعتقد فيه بأن مبادئ حقوق الإنسان بصفة مطلقة لا وطن لها بل وطنها العالم كله، فإنه واجب علينا القول بأنه مما يميز شعبنا عن غيره أن منشأ الإيمان بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية عنده كان منشأ مبدئيا منطلقا من نصوص الوحي وتعاليم الإسلام ومدعما بالتجربة الثرية التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والصالحون من أبناء هذه الأمة من بعده في صراعهم المرير ضد الاستبداد والميز العنصري والاستغلال وكل أشكال الاعتداء على كرامة الإنسان وحقوقه وحرمته الجسدية، ذلك أن تأصل قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في مجتمعنا العربي الإسلامي ناتج عن سيادة تصورللإنسان الذي يعتبرأكثر من مجرد مواطن تمنح له بعض الحقوق السياسية، وأكثر من فرد تمنح له بعض الضمانات الاجتماعية، بل إن إنسانيته هي عنوان تكريمه من لدن المولى عز وجل ومناط تكليفـه (ولقد كرّمنا بني آدم) ، ولذلك لاغرابة أن يكون الإنسان غاية وأساس ووسيلة كل مجتمع مدني متحضر.

وإن من نتائج هذا التكريم الإلهي أن أضحى الإنسان خليفة الله في أرضه والمكلف بتعميرها والاستفادة من خيراتها ومخلوقاتها، سواء كانت موجودات طبيعية أو مستحدثات بشرية. ولذلك فلا غرابة أن تكون الدولة من هذا المنظور مسخّرة لخدمة الإنسان ونفعه، وهي مطالبة بأن لا تشذ عن مبدإ التسخير العام الذي يتظافرعلى الانخراط فيه كل الوجود، كما أنه لا غرابة أن يغدو العمل على بناء مجتمع قائم على الشورى والعدل والإحسان، وعلى إعطاء كل ذي حق حقه، والتصدي لكل مظاهر الانحراف التي تمس من الحريات الخاصة والعأمة، وحق الإنسان في التفكير، وحرية ضميره ومعتقده (لا إكراه في الدين تد تبيّن الرُشد من الغيّ)، وحقه في التعبير وتحريم المس من حرمته الجسدية، وحرمة مسكنه (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها)[11]، وحقه في العيش الكريم، أن يغدو كل ذلك واجبا شرعيا . لذلك فإن من يقتل نفسا بغيرحق فكأنما قتل الناس جميعا، ولذلك أيضا حظي المظلوم المعتدى على حقوقه مهما كان لونه وجنسه ومعتقده ومستواه الاجتماعي الى امتيازعند الله سبحانه وتعالى عن غيره من البشر إذ ليس بين دعائه وخالقه حجاب .

وإذا استُهدفت هذه المبادئ خلال العديد من فترات تاريخ أمتنا بالاعتداء وذلك بداية من تسلط الأمويين وافتكاكهم لزمام الأمور، وإذا ران على هذه القيم في مراحل كثيرة غباركثيف غذاه الجهل والتقليد الأعمى وانطفأت جذوة روح الاجتهاد والإبداع، فإن تاريخ هذه الأمة لم يخل من محاولات قديمة وحديثة لتأكيد هذه المبادئ وتجسيدها. وكما شهد وطننا العربي الإسلامي انبناء دول على أساس الوفاء لهذه المبادئ (تجربة عمرابن عبد العزيزرضي الله عنه شرقا ـ دولة الموحدين غربا)،  شهد على أساس نفس المبادئ قيام حركات إصلاحية قديمة وحديثة (صلاح الدين الأيوبي – ابن تيمية – الإمام سحنون – الأفغاني – محمد عبده – رشيد رضا – عبد العزيز الثعالبي وغيرهم).

أما على المستوى المحلي فلقد كان تاريخ أبناء تونس حافلا بالنضال ضد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتزييف الثقافي وخاصة ضد آخرحلقاته ممثلة في العهد السابق. وإذا كان من الواضح للعيان متانة الارتباط خلال فترة الاستعمار المباشر والوجود الفرنسي بين النضال من أجل التحررالوطني والاستقلال والنضال من أجل الديمقراطية والدفاع عن الحقوق المادية للتونسيين، فإن التاريخ يسجل بكل فخر واعتراز أن شعبنا وطلائعه السياسية والاجتماعية قد دفعوا الكثير من أجل ضمان حق التونسي في التفكير والتعبير وحقه في العيش الكريم والتمتع بخيرات بلاده، حتى جاء السابع من نوفمبر الذي كان تتويجا لنضال تاريخي مريرضد التسلط، وانطلاقة هامة وتاريخية نحو تأسيس المجتمع المدني ودولة القانون.

وحتى تكون خطوات بلادنا من أجل تعزيز المبادئ والتوجهات المعلنة خطوات ثابتة ومتبصرة من أجل توفير إرادة شعبية تدعم الإرادة السياسية المتوفرة وتحمي خطواتها، وجب التنبيه إلى معطى هام وهو أن الخيار الديمقراطي – مدا وجزرا – ليس رهين إرادة سياسية فقط بل هو رهين ثقافة جماعية.  

2-  النضال من أجال الديمقراطية نضال ثقافي قبل كل شيء

يقول مونتسكيو في كتابه "مقدمة لروح القوانين": "في زمن الجهالة لا نشعر بتأنيب الضميرحتى وإن ارتكبنا أكبر الشرور وفي زمن التنوير نضطرب حتى لو قمنا بأفضل الأعمال."

إن هذه القولة لكفيلة باقناعنا بأن تحقيق الديمقراطية قبل أن يكون مجرد عملية نقل السلطات بين حاكم ومحكوم هي عملية تكوين الإحساسات وردود الافعال والمقاييس التي تشكل أسس ديمقراطية ما في شعب ما وفي تقاليده. ومن أجل ذلك وجب النظر إلى الديمقراطية من خلال نقـاط ثلاثة :

1)  من حيث كونها شعورا ذاتيا للإنسان

2)   من حيث كونها شعورا تجاه الآخرين

3)  من حيث كونها مجموعة ظروف اجتماعية وسياسية ضرورية لتكوين وتفتح مثل هذه المشاعر لدى الفرد والمجموعة.

يقول المفكر مالك بن نبي رحمه الله في كتابه "حول الديمقراطية في الإسلام": "إنه من البديهي أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق كواقع سياسي باعتبارها سلطة الشعب ما لم تكن قد ترسخت قبل ذلك داخل الفرد الذي يتكون منه الشعب، ما لم تكن قد ترسخت في ذاته في بنية شخصيته، ما لم توجد في المجتمع كمجموعة أعراف وعادات وممارسات وتقاليد.

إن الإحساس الديمقراطي لا يتكون في أي ظرف أخلاقي واجتماعي، إنه نتيجة لثقافة معينة وتتويج لمذهب إنساني أي نتيجة لتقدير معين للإنسان على مستواه الشخصي وعلى مستوى علاقته بالآخرين"

وإذا كان المؤرخ قيزو في تأريخه لأوروبا منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية حتى الثورة الفرنسية قد أتاح لنا فعلا متابعة عملية تحقيق الديمقراطية ونشوء الإحساس الديمقراطي في أوروبا، فإن الناظر لتاريخ المسلمين يتبين أن هذا الإحساس الذي نشأ مثلما سبق أن أوضحنا منشأ مبدئيا منطلقا من نصوص الوحي قد عبر عن نفسه من خلال تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والعديد من حركات الاصلاح والنهضة. ولذلك فإن العملية الديمقراطية في عمقها تمثل نوعا من الحد النفسي الذي يبدو تحته شعور الرق وفوقه شعور الاستبداد، فيكون الإنسان الحر بذلك إثبات بين هذين الأمرين : الرق والاستبداد. كما تكون عملية التطور نحو الديمقراطية مستوجبة لأن يتخلص المواطن حاكما ومحكوما من التوجهات المضادة للديمقراطية الكامنة في باطنه وذلك بالحد بين الميل نحو الاسترقاق لدى الأول والميل نحو الاستبداد لدى الثاني. ولقد نبهت الآيات القرآنية بوضوح إلى الوقوع في ذلك : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)[12] ، (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولائك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلافأولائك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفورا رحيما)[13].

إنه من الطبيعي أن يتحول الإحساس الديمقراطي إلى ثقافة وعقيدة، ذلك أن كل مشروع لتحقيق الديمقراطية هو مشروع تربوي لكل أفراد الشعب على الصعيد النفسي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي تكون له نتائج واضحة في نظام الحياة وتشاريعه وعلى صعيد أفعال الإنسان وحقوقه والضمانات التي يتمتع بها وعلى صعيد تصرفات السلطة وصلاحياتها وحدودها وكذلك على كيفية تكونها، مما يدعم القول أن الديمقراطية في جوهرها ليست مجرد إعلان عن أن شعبا ما هو صاحب السيادة بل هي نتاج عملية مركبة يسعى الجميع من خلالها الى خلق الاحساس والثقافة والتشريعات الديمقرطية، والى جعلها ممارسة سائدة في واقع المجتمع وخلاياه، على نحو أن لا تغيب الديمقراطية عن ضمائر المواطنين ومطالبهم ونضالاتهم حتى في صورة عدم وجود نص يحميها أو تعرض ذلك النص للإلغاء من طرف مستبد أو وضع نص معاد لها، لأن أساس الديمقراطية أعمق من سطر مكتوب، انه يجد مكانه في عمق الإنسان وفي إرادته وفي إحساسه وثقافته وعقائده وتقاليده وأعرافه وممارساته.

3-  الديمقراطية أساسا للعمران

إنه لا نهضة ولا تقدم في ظل غياب الديمقراطية السياسية والاجتماعية واحترام الحريات العامة والخاصة، ذلك أن الاستبداد السياسي كان تاريخيا مرادفا للتخلف والتطاحن والانهيارالاقتصادي والاجتماعي والحضاري بصفة عامة.

وعلى هذا فإننا لا نخطئ القول اذا أكدنا على جملة القناعات التالية:

1.  أن الديمقراطية ضرورة من ضرورات تأسيس المجتمع المدني الناهض ودعمه تجذيره.

2.  أنها الوسيلة الأرقى لتطور الحياة السياسية بالبلاد ولقيام علاقات سوية بين مؤسسات الحكم وبين الشعب والدولة وبين مختلف التنظيمات.

3.  أنها الضمانة الأساسية لحماية الحريات وبناء مجتمع قائم على العدل وتكافؤ الفرص رافض للعنف ومناهض للتطرف.

وإذا كان تأسيس المجتمع المدني والحفاظ على العمران وتطوره ورقيه يتطلب جهدا من طرف كل أبناء البلاد مهما اختلفت مشاربهم ومواقعهم، وإذا كان التغيير الحاصل قد فتح المجال أمام الأمل في تكريس الخيار الديمقراطي، فإنه يجب التنبيه إلى أن المعركة من أجل تحقيق المزيد من المكاسب لم تنته، وأن ما تحقق منها - وهو كثير ولله الحمد – لا يجب أن ينسينا أنها معركة شاقة وطويلة تستوجب المزيد من التجند من أجل تأصيل قيم الديمقراطية والحرية داخل كل مؤسسات مجتمعنا من أجل القضاء على كل موروث ومكتسب يعادي هذه القيم النبيلة.  

4-  المجتمع المدني أساسا للديمقراطية

عندما تفقد الروح الديمقراطية أساسها  في شخصية الفرد، وحيئما يفقد الفرد الشعور بقيمته وقيمة الآخر، تتوقف تلك الروح عن التعبير عن نفسها في عالم الـواقع. فالديمقراطية تتطلب تجسيدا لمبادئها وحقائقها في إطار مجتمع يعيشها ويحفظها . فهي بهذا المعنى جملة متناسقة مترابطة من المقتضيات التي تمس حياة الجماعة والفرد. وهاهنا يبرز إالى جانب عنصر الثقافة والوعي دور المؤسسات والهياكل أسرة كانت أم جمعيات أم احزابا أم دولة في بناء وصيانة المجتمع، باعتبار البناء والصيانة معا مسؤولية مشتركة لا تستقل بالنهوض بها جهة من دون الأخريات.  وعلى هذا الأساس فإنه لا بد من التأكيد على جملة من المبادىء أهمها:

1.  احترام النظام الجمهوري باعتباره أحد ركائز المجتمع المدني. إن تلك المسؤولية المشتركة بين الهياكل الوطنية والمؤسسات المجتمعية لتبرز أن الدولة من جهتها على أهمية دورها تظل بالأساس مصدر تأطيرلا مصدرإنشاء للمجتمع المدني الذي هو نقيض المجتمع السلطوي الاستبدادي العبودي.

وعلى هذا الأساس فإن المجتمع هو منشأ الدولة لا العكس، وأن ذلك الدورالتاطيري الأساسي للدولة هو في الأخير لصالح الدولة ذاتها أيضا، يخفف من حملها ويضمن حفظ المجتمع المدني نفسه بنفسه بحفظ مقومات الحياة والتطورالذاتي فيه. وهذه الصيغة من العلاقة هي أفضل ضمان ضد القطيعة بين الحاكم والمحكوم وتواكل المواطن باعتماده السلبي على الدولـة.

وبهذا المعنى فان النظام الجمهوري هو نقيض لنظام الحكم المطلق والدولة الإطلاقية  سواء كان أساس قيامها ثيوقراطا أو دكتاتوريا أو بروليتاريا أو فرديا أو سوى ذلك.

2.   احترام مبدأ سيادة الشعب وحقه في اختيارمن يمثله ويحكمه عن طريق الانتخاب الحر النزيه. ومبدأ السيادة لا في المجال السياسي فحسب بل إنه لا يتم اكتماله إلا حين يشيع عبر سائر مجالات الحياة المدنية اجتماعية وثقافية وغيرها. ذلك أن الديمقراطية المقصورة ديمقراطية قاصرة وهذه بدورها غير خليقة بشعب راشد سيد لنفسه.

3.   احترام مبدأ التداول على السلطة لما في ححب هذا المبدأ من تسفيه فعلي للشعب وفتح لباب القطيعة والانزلاق.

4.  الفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية فصلا يعكس توازن المجتمع المدني وتكامل وظائفه.

5.  احترام استقلالية القضاء ودعم مهام مجلس القضاء الأعلى واعتماد التمثيل الانتخابي فيه.

6.  احترام استقلالية التنظيمات الجماهيرية عن كل الأطراف السياسية والعمل على ضمان وجودها ووحدتها واحترام ديمقراطية القرار داخلها.

7.  التمييز الواضح بين الأحزاب الحاكمة وبين الدولة، وتحييد الإدارة، وضمان استقلال المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة عن الأحزاب والتنظيمات، واعتماد مبدأ الاشراف الممثل بما يضمن حيادها وإيجابيتها، وتحرير وسائل الإعلام من كل ضغوط وقيود، سوى ما يقتضيه القانون ومبادئ المهنة من أجل ضمان التزامها بمصلحة البلاد.

8.  ضمان استقلالية المساجد والمؤسسات الدينية عن كل الأحزاب بحيث لا تستخدم كأطر للتوظيف الحزبي، كما لا يكون الانتماء الشخصي لحزب سياسي سبيلا للتزكية أو الإقصاء، وجعل الإشراف عليها والتوجيه فيها لا يعتمدان مقياسا غير الكفاءة.

ومن جهة أخرى فإن المجتمع المدني الديمقراطي هو الذي يلتزم فيه باحترام الحريات العامة والخاصة لكل أبنائه ذكورا وإناثا مهما كان معتقدهم ولونهم ومستواهم الاجتماعي وموقعهم السياسي ومن أبرزها :

1.  حرية التفكير والمعتقد والتنظيم والتعبير وممارسة الشعائر التعبدية لكل التونسيين.

2.  حرية تنقل المواطنين داخل البلاد وخارجها.

3.  حرمة المسكن وسرية المراسلة.

4.  احترام الحرمة الجسدية للإنسان، ورفض التعذيب، وتحديد مدة الاحتفاظ والإيقاف التحفظي إلى أدنى حد، وعدم المس من كرامة الإنسان وإن كان من المحكوم عليهم.

5.  مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون والقضاء.

6.  احترام التعددية السياسية والفكرية باعتبارها الطريق الأسلم لبناء مجتمع قائم على التنافس الإيجابي بين كل أبنائه وإن اختلفت عقائدهم وأفكارهم. ذلك أن الاختلاف بين أبناء الشعب العاملين على النهوض بواقعه وتطويره المخلصين له رحمة. وإحلال الفهم الإيجابي للآخر محل الفهم المبني على روح العداء والإقصاء، هو أمر حيوي باعتبار أن وجود المخالف في الرأي ليس شرا مطلقا بل هو ضرورة لتحقيق التدافع الحضاري، وتعبير عن واقع معيش لا فائدة في طمس وجوده. وهذا ما يدفعنا إلى القول أنه لا ديمقراطية بدون احترام التعددية الفكرية والسياسية وبدون رفض الاحتواء والإقصاء.

7.  رفض اعتماد العنف كوسيلة لحسم الخلافات الفكرية والسياسية.

8.  احترام حق المشاركة في تحديد الاختيارات التي تهم حاضر البلاد ومستقبلها باعتباره حقا مشروعا لكل التونسيين.

وإذا كان الحديث عن مختلف الأسس والمنطلقات التي ثبت ارتباطها الوثيق بالمسألة الديمقراطية هو مجرد تواصل مع ما هو مسلم به من قبل الجميع مما نص عليه الدستور، فإن إبراز هذه الأسس والمنطلقات هو في الحقيقة تأكيد على مبادئ الدستور ودعوة من جديد للوعي بمقتضياته والالتزام بها.

وبذلك تنخرط حياتنا السياسية والاجتماعية كلها ضمن ما حدده الدستور من مقتضيات بدونها تضيع معالم الطريق ويسقط الإنسان في مهالك الاستبداد والعبودية.

5-  الديمقراطية سياسية واجتماعية أو لا تكون:

لئن وجب أن تكون الديمقراطية كما سبق أن بينا عنصرا فاعلا في نطاق الضمير والمشاعر، وأن تمارس في الخارج أي في مجال الوقائع والتصرفات الفردية والعامة وفي نشاط المؤسسات، فإنه يجب التنبيه إلى أن الديمقراطية التي نعنيها نظام ذو وجهين سياسي واجتماعي. اذ ليس نظاما ديمقراطيا في فهمنا ذلك الذي يمنح الفرد حرية التفكير ثم يتركه يهلك جوعا، ذلك أنه لا ديمقراطية بدون ضمان واحترام جملة من المبادىء أهمها :

1.  حق كل المواطنين ذكورا وإناثا مهما اختلفت انتماءاتهم الفكرية والسياسية في الشغل والرزق.

2.  حق كل فرد في الحياة الكريمة وفي التمتع بثمارعمله وبنصيبه من خيرات البلاد التي يجب أن توزع بعدل.

 كما أنه ليس نظاما ديمقراطيا ذلك الذي يمنح الفرد بطاقة انتخابية  ثم يتركه يُسحق تحت ضغط التكتلات الاقتصادية والتحالفات المصلحية فيضحى احتياجه بابا ليفقد ذاته، ويصبح أداة طيعة بين أيدي أصحاب الجاه والسلطان، مما يفرغ العملية الانتخابية من كل محتوى ديمقراطي.

وهل يمكن الحديث عن انتخابات حرة دون توفرالإرادة الحرة عند كل المشاركين؟

خاتمة

إن تثبيت هذه المبادئ فى الذهنية العامة للشعب يقتضي ابتداءا إجماع كل الطلائع الفكرية والسياسية حولها حتى يتسنى لها صياغة وعي ساسي عام مشترك مؤسس على قاعدتها.

وإن تحقق ذلك، علاوة على أنه يحتاج الى جهود تربوية وإعلامية كفيلة بأن تعيد للإنسان اعتباره وكرامته فى الضمائر والأذهان و أن توفر ضمانات لحقوقه في مجال الواقع، فإنه سينشئ وعيا وواقعا سياسيين متحررين من عقليات وأوضاع العبودية والاستبداد التي تبلورت عبر بعض مراحل تاريخنا القديم والحديث والقريب، فيندرج النضال السياسي بالتالي ضمن العمل الاصلاحي العام في أبعاده التاريخية والحضارية.

وإذا حصل هذا فإن منهج التغيير السياسي والاجتماعي سيتخلص من مفاهيم التآمر والمناورات وطرق العمل السري وأساليب العنف بكل أشكالها، ويتركز على معاني علنية وجود التيارات والتنظيمات، وقانونية أنشطتها، ومشروعية طموحاتها، فتندرج بذلك نضالاتها ضمن السعي إلى تحقيق المصلحة العامة والإخلاص للوطن.

الباب الثالث: نمط التنمية

توطئة:

إن إنماء بلادنا مهمة يشترك فيها كل أبنائها. وهي تستلزم بالتالي الصدور عن رؤية عامة مشتركة تكون بمثابة الضوابط الموجهة للمشروع التنموي في خطوطه العريضة دون ملامسة تفاصيل الاختيارات ميدانيا في مختلف المجالات، لأن ذلك لا يسعه ميثاقنا الوطني الـذي يطمح الى أن يكون عقدا أدبيا يرعى العمومى المشترك ببن كافة أبناء هذه البلاد، ويترك المجال سانحا لكل التيارات السياسية حتى تصوغ تفاصيل الاختيارات التنموية التي ترتئيها ضمن برامجها السياسية، فتتوفر بذلك مجالات أخرى للحوار والتفاعل بين تلك البرامج.

 

1-  أهمية العامل البشري في إنجاز التنمية :

ان كل مجهود إنمائي يهدف بالأساس إلى توفير حاجات الإنسان المادية والمعنوية ضمن مصلحة الجماعة . بيد أن هذا الإنسان الذى يظل هدفا للتنمية هو كذلك وسيلتها الأساسية إذ هو الذي يقوم على عمليات الانتأج والخدمات بأنواعها.

لذا يتعين تأهيله ليكون دعامة لنجاح الخطط التنموية، وإلا غدت هذه الخطط نصوصا جامدة وتقديرات نظرية مسقطة على الواقع غير قادرة على التأثير فيه مهما بلغت من الدقة والصرامة العلمية.

ويستدعي التأهيل البشري المنشود العمل على بناء شخصية المواطن المتكاملة بأبعادها العلمية والروحية والوطنية والأخلاقية بما يضمن اندفاع الأفراد والجماعات بصورة ذاتية واعية نحو تنمية البلاد، كل في مجاله وبحسب طاقته، وهوعمل يتطلب :

1.  العناية بالتعليم وتوسيع  إنشاء المدارس والمعاهد العلمية والفنية في جميع الاختصاصات حتى يتوفر المناخ الملائم لنهضة علمية وفكرية شاملة مؤسسة على الثابت في  مكونات الهوية العربية الإسلامية ومقتضيات الحياة المتطورة تنويرا للعقل وتهذيبا للذوق والسلوك.

2.  إيلاء البحث العلمي بكل فروعه المكانة التي يستحقها بالدعم والتشجيع من أجل توفير العلماء والباحثين والمخترعين إيمانا بأهمية دور العلم في فهم الواقع واستيعاب النظريات والحلول التي ابتكرها العقل البشري قصد الاستفادة من إيجابياتها والاجتهاد في التخطيط لإنماء البلاد.

3.  إحياء الضميرالشعبي بالقيم الدينية والوطنية التي تحث على التعلم والعمل والإنتاج والعدالة والتكافل حتى يرتقي العمل الإنمائي إلى مرتبة العبادة وترتبط بمعنى الثواب الإلهي فتنشط الحوافز الذاتية الفعالة.

4.   تشجيع  المبادرات الشعبية الهادفة إلى النهوض بالمجتمع سواء ما كان منها ذا صلة بالأعمال الخيرية والتعاونية أو تلك التي تنتظم في جمعيات فكرية واجتماعية واقتصادية وغيرها حتى تتوسع مجالات المشاركة في الجهد الإنمائي ويتحرر الناس من عقلية التواكل والاعتماد الدائم على الدولة في كل شيء.

5.  التشجيع معنويا وماديا على التعلم والعمل والإنتاج بإسناد المنح والإعانات والدعم المادي لبعض السلع والمنتجات ووضع نظام سليم للحوافز يشجع على الشغل  والعطاء ورفع الإنتاجية.

6.  تأكيد حقوق المرأة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية حتى تضطلع بدورها في تنمية المجتمع بعيدا عن السلبيات والتقاليد المستوردة وعوائق الممارسات الموروثة صونا لكرامتها واستعلاء عن مظاهر الميوعة والتفسخ.

2-  التنمية الاجتماعية:

إنه لا معنى لنماء اجتماعي في بيئة تسودها المظالم الناشئة عن الفقر والبطالة والفوارق المادية الفاحشة  بين الفئات وعدم التوازن الجهوى الخ...

فلئن جاز أن تشهد بعض القطاعات أو الفئات أو الجهات انتعاشا نسبيا في هذه الظروف، فإن ذلك على حساب غيرها ويظل السواد الأعظم من الشعب محروما من خيرات بلاده شاعرا بغربته عن ذاته وبانتقاص في وطنيته. وهو ما يهدد كل فرد في هذه الحالة إما بالاستقالة الاجتماعية والسياسية السلبية أو بالتفكير في ردود فعل انتقامية وعنيفة يكون نتيجتها التطاحن الطبقي والعصبيات الجهوية التي من شأنها أن تصدع الكيان الاجتماعي وتعطل عملية التنمية وتصوغ وعيا ما ديا وصداميا مدمرا مصداقا للحديث النبوي (كاد الفقر أن يكون كفرا)[14].

ويلزم عن هذا أن تكون التنمية الاجتماعية مرتكزة بالضرورة على العدل بمعناه الشامل الذي هو في حقيقته تجسيد لقيمنا الإسلامية الخالدة التي نستلهم بعضها من قول الله تعالى في ضبط العلاقات الاجتماعية:(إنما المؤمنون إخوة)[15]، وقوله في عدالة توزيع الثروة:(اعدلوا هو أقرب للتقوى)[16]، وقوله في الحث على الإنفاق(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)[17]، وقول الرسول في الحث على التضامن الاجتماعي:( ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ)[18]الخ  

فبدون تجسيد قيم العدالة فى واقعنا الاجتماعي تتردى العلاقات البشرية في مهاوي الكراهية والعداء بدل المحبة والتآخي وتحل لغة التدابر والعنف محل التعاون والتضامن والإيثار، فتتعطل بذلك العلاقات الفردية والعامة وتنأى بها الصراعات الداخلية عن الانطلاق الجماعي نحو العمل التنموي.

ولكي يتم تفادي هذه النتيجة الوخيمة لزم السعي إلى تحقيق ما يلي:

1.  إيجاد علاقات اجتماعية تقوم على أسس القيم الحضارية لبلادنا بترسيخ أصول الاخلاق والقيم الفاضلة حتى تسود المجتمع روح التآزر والتكافل والتآخي ومقاومة كل مظاهر الاستغلال والأنانية والتناحر بين مختلف الفئات الاجتماعية.

2.   تحقيق المساواة بين المواطنين والعمل على تذويب الفوارق بين الفئات من حيث القيمة الاجتماعية والكرامة الإنسانية علاوة على الحقوق والواجبات دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى المساواة المطلقة في المداخيل لأنها مرتبطة بنوع وحجم الجهد البشرى المبذول.

3.  التأكيد على أن العمل هو أصل التكسب وشرط النهضة وهوحق وواجب مما يستلزم توفير الشغل لكل القادرين عليه من أصحاب الكفاءات العلمية والمتمتعين بقوة العمل من أجل القضاء على ظاهرة البطالة المكشوفة والمقنعة وتمكين البلاد من الاستفادة من كل قواها النشيطة في العملية الإنتاجية.

4.   تنمية الإنتاج ومضاعفة الإنتاجية بحسن استغلال الثروت الطبيعية وحسن توظيف الإمكانات البشربة والمادية المتاحة.

5.  عدالة توزيع ثروة البلاد وخيراتها بين كافة المواطنين تلبية لحاجيات المجتمع الأساسية من غير إسراف ولا تبذير ودون حيف ولا تمييز وفق مبدأ (الرجل وبلاؤه الرجل وحاجته)[19]

6.  إذا كان الجهد هو مقياس الربح والعمل هو مصدر التملك، فإن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج المشروعة هي وظيفة اجتماعية يتعين تنظيمها بما يضمن تحقيق المصلحة العامة ويحول دون التفاوت وعدم المساواة.

7.  توفير الخدمات الاجتماعية بما يكفل الحاجات الضرورية للأفراد وحقهم في التعلم والصحة والسكن ومختلف وسائل المعاش ضمانا لاستقرار المجتمع ووحدته وسدا لأبواب الحاجة والعوز وتناسقا بين توفير الحق وأداء الواجب.

8.  على الدولة أن تتدخل في تنظيم الملكية والحياة الاقتصادية بدعم مؤسسات القطاع العام وخاصة ملكية مصادر الثروة الطبيعية والقطاعات الاستراتيجية في حياة الشعب وتنظيم الأجور بما يحمي القدرة الشرائية للمواطن وسن التشريعات العادلة ودعم التغطية الاجتماعية وتوسيعها .

3-  التنمية الاقتصادية:

إن جهود الانماء الاقتصادي لبلادنا يجب أن تتجه نحو بناء اقتصاد وطني قوي مرتكز على تصور يزاوج بين القيم المادية والقيم الروحية، ومبني على ضوابط المصلحة العامة والعدالة التي لا تنسحق فيها حرية الفرد ومبادرته.

وإن الغاية البعيدة التي يجب أن نسعى اليها جميعا هي الانتقال من وضع  الاعتماد على القروض الخارجية والاستيراد الى وضع الاكتفاء الذاتى بالاعتماد على إمكاناتنا البشرية والطبيعية والمادية الخاصة حتى يكون تعاملنا الاقتصادي مع الخارج قائم على التعاون العادل والتبادل المتكافىء ومتحررا من قيود التبعية لأية جهة نقدية أو سياسية فنكون وقتها قادرين على تجاوز مرحلة الاكتفاء إلى مرحلة توفير فوائض الإنتاج التي تُخول لنا التصدير والإسهام بالتالي في تطوير واقعنا الداخلي وواقع النظام الاقتصادى العالمي.

على أن هذا الهدف المنشود موقوف على توفير وعي شمولي ذو أبعاد وطنية وحضارية هامة. فبقدر احتياج اقتصادنا الوطني الى الاندماج الداخلي بقدر حاجته أيضا إلى الاندماج مغاربيا وعربيا وإسلاميا حتى يتوسّع مجاله الحيوي ويقوى بالتالي على الانتعاش ومواجهة تحديات التكتلات العالمية وسيطرة الاحتكار الدولي.

وفيما يلي أهم الأسس التنموية التي يتعين أن يرتكز عليها اقتصاد وطني تلك ملامحه:

1.  التعايش بين النظامين العام والخاص في علاقة تكامل وتناسق بما يضمن المصلحة العامة.

2.  تحقيق التوازن الجهوي بتوزيع الاستثمارات والمنشآت والخدمات (من طرقات وموانئ ومطارات ومرافق إدارية وعامة ...)  وتوسيع منشآت المياه والطاقة المعدة للصناعة وللاستهلاك العام وتأمين وسائل الاتصال السريع داخليا ومع الخارج لتيسير حركة الناس ومنتجاتهم ولإعطاء العملية الإنتاجية دفعا وحيوية.

3.  دعم وتنظيم قطاع الخدمات ممثلا بالخصوص في مكاتب الدراسات الهندسية والاقتصادية ... والخبراء المحاسبين والاستشاريين والبنوك الخ حتى يتم تنشيط الحركة الاقتصادية وتيسير التفاعل بين القطاعات داخليا وحتى تكون بلادنا قادرة على تصدير الخبرة وإسداء الخدمات إلى الخارج فيكون ذلك مصدرا للعملة الصعبة.

4.  العناية بالقطاع الفلاحي نظرا لما تنطوي عليه بلادنا من ثروات هائلة يمكن أن تكون المصدر الأول للدخل وأن توفرلشعبنا أمنه الغذائي وفوائض إنتاجية توجه الى التصدير الخارجي كما توفر له مواطن شغل كثيرة ومحترمة. لكن ذلك مشروط بتجسيم هذه العناية واقعيا بالترفيع من الاعتمادات المالية المخصصة من الميزانية لهذا القطاع وإعانة الفلاحين واستصلاح الأراضي وزراعة المهجورمنها و النهوض بأراضي الدولة ودعم البنية الأساسية باعتماد أحدث الآلات والوسائل المعاصرة في مجال الحرث وانتقاء البذور والري والجني والحصاد والتخزين والصيد البحري ومكافحة الآفات والتصنيع الغذائي الخ...

كما يقضي النهوض بالفلاحة عدم غمط العاملين فيها حقوقهم المادية والمعنوية. لذا يتحتم إقامة علاقة عادلة بين مالكي الأراضي والعملة الفلاحيين بما يضمن لهؤلاء العيش الكريم ويشد الجميع إلى إعمار الأرض واستخراج خيراتها. وتتحمل المنظمات الفلاحية في هذا المضمار مسؤولية أساسية تحتم توفير الشروط اللازمة لحسن أدائها.

النهوض بالقطاع الصناعي وتحقيق تفاعله وتكامله مع القطاع الفلاحي وتحريريه من التبعية لدواليب الاقتصاد الأجنبي، وذلك بالتركيز على الصناعات التي تتوفر موادها الأولية في بلادنا، وتلك التي توفر المواد والسلع التي يغلب استهلاكها في الأسواق، حتى تكون صناعتنا الوطنية معتمدة على ذاتها وخادمة لمشروع التنمية الشاملة. ويستدعي تحقيق هذا الهدف الجد في استغلال ثروات بلادنا المعدنية، والكشف عن مزيد من مصادر الطاقة، ودعم وتوسيع البنى الأساسة التي تستلزمها صناعة وطنية حديثة وقوية يحظى العامل فيها بحقوقه المادية والمعنوية كاملة غير منقوصة، حتى يحافظ على إنسانيته ويكون في مأمن من الاستلاب، ويكون للشعب فيها كامل السيادة على ثرواته.

5.  تيسير سبل التجارة الداخلية بما يمكن من تسويق وترويج منتوج كل القطاعات دون أن يكون الربح مقياسا مقدما عل مبدإ توفير الخدمة العامة، وهو أمر يستدعي تدخل الدولة بوضع نسب معقولة للربح ودعم مصالح وأجهزة مراقبة جودة السلع وضبط الأسعار حتى تتم محاصرة الغش والغلاء والجشع.

6.  تشجيع تصدير منتجاتنا الوطنية وضبط الاستيراد بالحاجات الفعلية لبلادنا في مجالات الخدمات والزراعة والصناعة والاستهلاك العام، والحد من استيراد المواد الاستهلاكية التي توفرها زراعتنا وصناعتنا الوطنية.  

7.  ترشيد الاستهلاك العام بنشر وعي يحصن مجتمعنا من أن يتحول إلى نمط مجتمع استهلاك وسوق للبضاعة الأجنبية، لما في ذلك من ضرر يلحق اقتصادنا الوطني بفعل تفوق الطلبات الاستهلاكية على العمليات الإنتاجية، وما قد ينجر عن ذلك من مضاعفات على صعيد تبعيتنا للخارج فضلا عن الخلل الأخلاقي والسلوكي الذي ينشأ عن تفشي نمط الحياة الاستهلاكي، حيث ينحرف الناس عن القاعدة القرآنية :(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)[20].

ولا بد من الإشارة في الأخير إلى أن النهوض بالقطاعات الخدمية والزراعية والصناعية المذكورة آنفا هو أفضل من تركيز الاقتصاد على السياحة التي يرتبط وضعها دائما بعوامل ظرفية مناخية وأمنية وغيرها تهدد اقتصادنا بأن يكون هشا ومهددا على الدوام علاوة على الانعكاسات الاجتماعية والأخلاقية المنجرة عن هذا القطاع الذي يحتاج إلى إعادة تصور وتنظيم وإلى كثير من الترشيد.

4-  الثقافة والتربية والإعلام والشباب:

انطلاقا مما سبق بيانه من وثيق ارتباط عملية التنمية بالعامل الإنساني (في مطلع هذا الباب) وبالسياق الاجتماعي والثقافي (في أواخر مرتكزات الاقتصاد الوطنى) يتجلى ما  للتنمية الثقافية من أهمية في تحقيق التنمية الشاملة، حيث أن الثقافة بالنسبة إلى أي مجتمع هي تعبيرعن عقيدته وقيمه ونمط تفكير أفراده، واتجاهات سلوكهم وعاداتهم... وانعكاس كل ذلك على مظاهر الحياة والمعمار والواقع المادي لذلك المجتمع . فهي بالتالي حافظة شخصيته الأساسية وصانعة ملامح الإنسان داخله فكرا وسلوكا . إن ثقافتنا العربية  الإسلامية تفجر فينا فعلا، طاقات إبداعية توجه علاقتنا بالكون نحو العمل على تعميره  وتسخيره لخدمتنا وللإصلاح في الأرض عموما، وتوجه علاقتنا بالإنسان نحو التعارف والحب والإخاء والاجتماع على الخير، لأن كلتا العلاقتين محكومتين بعقيدتنا الإسلامية أي بعلاقة الإيمان والعبادة التي تربطنا بالله تعالى وتوجه فكرنا وسلوكنا.

لذا يعد اهتمامنا بتنمية ثقافتنا سببا لصيانة كياننا المستقل ودعم شخصيتنا الأساسية التي في ضوئها يتحدد نمط المجتمع وبالتالي نمط التنمية الذي يليق بنا ويدفع بلادنا نحو النهضة والتقدم.

ويتطلب تحقيق التنمية الثقافية إنجاز مهام مركزية ذات صلة بمجالات التربية والإعلام والطفولة والشباب وهي التالية:

1.  العناية بالوظيفة التربوية داخل الأسرة وفي المدارس وفي بقية المؤسسات الثقافية والاجتماعية وإعطاؤها مضمونا عقائديا وأخلاقيا يضمن دوام القيم الثقافية الأصيلة فينا ويجعل منها مصدر صياغة راقية لمجتمعنا تحمي الفرد فيه من روح الانهزام حيال المذاهب المعادية لثقافتنا ولمبادئنا الحضارية وتبعث فينا روح العزة.

2.  تشجيع الآداب والفنون والعلوم حتى تؤدي دورها في نشرالفضيلة والدعوة إلى التدبر وتساهم في تدعيم أسس النهضة.

3.  حفظ كيان الأسرة قوام المجتمع المعافى، والعمل على أن تقوم العلاقات داخلها على المودة والرحمة والتكامل والاحترام وتقديس الرباط الزوجي حتى تتوفر في ظله الظروف الملائمة لرعاية الطفولة تنشئة وإعدادا.

4.  العناية بالكتاتيب القرآنية ورياض الأطفال ودور الحضانة حتى تؤدي دورها في التربية السليمة.

5.  تمكين المسجد من أداء وظيفته التربوية والاجتماعية العقائدية والخلقية والتثقيفية.

6.  الترغيب في المطالعة وتوسيع المكتبات ودور الثقافة ودعمها حتى تؤدي وظيفتها التثقيفية البناءة.

7.  تحقيق سياسة إعلامية تقوم على احترام حرية التفكير والتعبير وتنمية روح الإبداع والابتكار وتوفير الشروط اللازمة لإيجاد إعلام مسؤول ونزيه ومستقل يحترم مكونات هوية البلاد ويساهم في تقدمها.

8.  إيلاء الشباب المكانة التي يستحقها وفتح آفاق مساهمته بصفة فعلية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بالبلاد وتيسير استقراره واندماجه في المجتمع بتوفير العمل والتشجيع على الزواج.

9.  نشر المماسة الرياضية بتوفير البنى الأساسية والتجهيزات اللازمة لها حتى يتسنى تنشئة أجيال قوية الأبدان سليمة العقول إذ (المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف)[21] وتهذيب الرياضة بتنقية أجوائها من العنف وسوء الأخلاق وإعطاء الأولوية للممارسة على الفرجة ومتابعة أخبار الأبطال والفرق،  حتى لا يكون الاهتمام الرياضي ضربا من إهدار الوقت وضياع الوعي.

الباب الرابع : الاستقلال والعلاقات الخارجية

إذا كان لا يجب أن يفوتنا فى هذا الميثاق وبمناسبة الحديث عن ضرورة دعم استقلال البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا استحضار التضحيات الجسيمة التى دفعها التونسيون قديما وحديثا لدحر الوجود الاستعماري المباشر وتحرير البلاد من براثنه وبناء أسس الدولة المستقلة، فإنه لا يجب أن يفوتنا بأي حال من الأحوال أن نقف بهذه المناسبة خاشعين مترحمين على أرواح شهدائنا الأبرار التي بذلت سواء لتحقيق الاستقلال أو في سببل دعمه والتي تمثل شموعا نستضيء بها ونحن نقوم بخطوات هامة في طريق تحقيق آمال أبناء هذا الشعب الأبي وطموحاته .

وإذا كان في العمل على دعم استقلال البلاد على كل المستويات وفاء لأرواح الشهداء ولتضحيات المخلصين من أبنائها، فإنه كذلك توفير لشرط هام من شروط تأسيس المجتمع المدنى المتطور وتحقيق نموه ونهضته وهو ما يتطلب التأكيد على وجوب احترام جملة من المبادىء أهمها :

1-   الولاء الوطني :

وذلك باعتباره مبدأ ساميا يتنافى مع التبعية أيا كان شكلها، ومضمونها متجاوبا مع ما هو عميق في ضميرنا الجمعى من الاعتقاد بأن حب الوطن من الإيمان والدفاع عنه دفاع عن العقيدة، الأمر الذي يجعل من الولاء الوطني فكرة وثقافة وسلوكا وعملا.

1.  وهنا نرى لزاما علينا التأكيد على ضرورة إيلاء هذا المعنى المكانة التي يستحقها في تربية النشء وتكوينه، وذلك من خلال برامج التعليم والإعلام والثقافة العامة منها والحزبية.

2.  العمل على الحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها ورفض كل تبعية لأنظمة خارجية، والتمسك بمقتضيات دستور البلاد ومبادئه، والعمل على دفع عملية بناء المجتمع المدنى وحماية النظام الجمهوري والمؤسسات الدستورية وتدعيمها.

3.  الحفاظ على وحده أبناء شعبنا على كل الستويات، وحماية مجتمعنا من كل أسباب التفكك والتنازع، وذلك بتوفير الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية اللازمة لتطوره وتقدمه في إطار من الوحدة والانسجام والوفاق، ورفض كل تعصب مذهبي أو جهوي أو طبقي أو حزبي.

4.  اعتبار أن الوحدة هي القوة التي نواجه بها كل المخاطر التي تهدد كياننا واستقرار بلادنا وتطورها، والعمل على توفير الضمانات الضرورية لحماية تونس أرضا وشعبا من أي خطر داخلي أو خارجي، والوعي بأن ذلك يتطلب التجرد الكامل على مستوى السلطة والشعب والتنظيمات من كل الطموحات الذاتية المنحرفة، سواء تلك التي تهدف إلى سلب السلطة أو الاستئثار بها، ومن كل رواسب الانتماءات الضيقة والارتباطات التي تفترض ولاءات لغير مصلحة البلاد ومصلحة الشعب، مع الالتزام بمعالجة كل خلاف يطرأ بالطرق السلمية ونبذ كل وسائل الإرهاب والعنف من أي جهة كانت.

واعتبارا أن وحدة بلادنا هي أساس وحدة بلدان المغرب العربي والمنطقة العربية والامة الإسلامية عملا بقوله تعالى (ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)[22]. ذلك أن الدعوة لدعم وحدة بلادنا ليست دعوة إقليمية، بل تأتي من منطلق ايماننا بأنها الخطوة الاولى والضرورية لتحقيق الوحدة فى إطار أشمل وأوسع. إذ أن وحدة العرب والمسلمين هي قدر شعبنا وهي ضرورة حتمية لضمان الوجود والنمو والتقدم والاستقلال.

وإن من أوكد مقتضيات إيماننا بالوحدة العربية ووحدة الأمة الإسلامية تفاعلنا الإيجابي والجاد مع كل قضايا أمتنا العادلة والمشروعة وفي مقدمتها قضية تحرير فلسطين، وتحرير الأراضي والشعوب عربيا وإسلاميا وإنسانيا من سيطرة قوى الهيمنة الشرقية والغربية عن طريق احتلال الارض ( فلسطين ـ أفغانستان – أريتريا - جنوب إفريقيا..)، أوعن طريق الاستعمار الغير مباشر بفرض التبعية الاقتصادية والثقافية وعرقلة عملية النهضة والتحرر في هذه البلدان.

5.  التأكيد على أن إيماننا بضرورة حماية وحدة بلادنا والعمل على توفير شروط قيام الوحدة العربية الإسلامية لا يعني البتة الانغلاق ورفض الانفتاح على العالم الخارجي ونحن في زمن تطورت فيه وسائل الاتصال حتى غدت الفواصل الجغرافية لامعنى لها وأضحى من المستحيل على أي دولة أن تتقوقع على نفسها أو أن تمنع أبناءها من التفاعل والتعامل مع بقية دول العالم، الأمر الذي  يستوجب الاستفادة من كل نافع ومفيد من تجارب الآخرين ومنجزاتهم، واعتبار أن حضارة العصر الحديث ليست ملكا للغرب بل هي ملك للإنسانية جمعاء، وهي ثمرة صراع للبشرية كلها مع الطبيعة والمحيط، ونتاج كدح الإنسان من أجل الأفضل والأرقى، وأن ما تحقق من تطور علمي وحضاري لم يأت صدفة أو انطلاقا من فراغ بل جاء بعد أن استوعب أصحابه إبداعات للإنسان في فترات تاريخية سابقة ووعوا بمنطلقات ازدهار الحضارات الأخرى وبعوامل انهيارها وفنائها وأسبابه.

6.  سلوك سياسة خارجية ثابتة تقوم على أساس عز البلاد ومناعتها واستقلالها عن كل نفوذ لقوى الهيمنة، وقيام العلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل ووفق مبادئ العدل والمساواة. وإعطاء الأولوية في ربط العلاقات لبلدان المغرب العربي والبلدان العربية والإسلامية.

7.  دعم قضايا التحرر في المنطقة العربية والوطن الإسلامي والعالم كافة وفي طليعتها قضيتي تحرير فلسطين وأفغانستان، والنضال ضد سياسات الاستعمار والميز العنصري، مع دعم التضامن العربي والإسلامي، والتوعية بقضايا الأمة، والعمل على وضع حد للاستعمار والتجزئة والتخلف، وتركيز الجهود على ضمان مزيد من التكامل والتآزر في كل المجالات كخطوة نحو  تحقيق الوحدة الشاملة.

8.  الالتزام التام بمبادىء عدم الانحياز الإيجابى، والعمل على إيجاد نظام اقتصادي وثقافي عالمي جديد.

 ودون الخوض في العديد من التفاصيل التي لا يتسع المجال لذكرها، نرى لزاما علينا التأكيد على أن سيادة بلادنا الخارجية يجب أن تبنى على أساس الحفاظ على كرامة التونسيين واستقلالهم السياسي والاقتصادى ووحدتهم الوطنية، مع ما يعنيه ذلك من تأسيس هذه العلافات على قاعدة الاحترام المتبادل والتعامل المتكافىء والحياد الإيجابي واحترام حقوق الانسان، دون المس من التزاماتنا العربية الإسلامية، وتأييدنا المبدئي لقضايا التحرر فى العالم ورفض سياسة الاستعمار والميز العنصري.

خاتمة عامة

إذا كان انحطاط أي مجتمع وتخلفه ظاهرة شاملة تمس كل قطاعاته وتطبع مختلف العلاقات داخله، لأن عواملها تكمن في كل المستويات الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإن ضبط أي تصور نهضوي أو تخطيط تنموي يجب أن يتحلى تبعا لذلك بنفس هذه الرؤية الشمولية التي لا تغفل أي مجال من مجالات المجتمع، نظرا لتفاعل كل هذه المجالات فيما بينها وارتباط بعضها ببعض بل توقف نمو بعضها على نمو البعض الآخر.

لذلك كان النمط التنموي الذي ننشده يهدف إلى تحقيق تنمية مندمجة لا تولي أهمية خاصة لقطاع دون آخر أو على حسابه، ولا تنفصل فيها الرؤية التنموية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية عن الرؤية للإنسان أو عن تصور أسس الحياة السياسية الخ ...

 فكما أنه لا معنى لديمقراطية سياسية دون عدالة اجتماعية - مثلما تجلى ذلك في الباب  الثاني من هذا الميثاق - فإن التفكير في تنمية اجتماعة اقتصادية دون إقرار الحرية السياسية بصيانة حقوق الاسسان وتمكينه من حظوظ المشاركة السياسية في ادارة شؤون البلاد وفق أسس دستورية وديمقراطية واضحة وأصيلة، إن ذلك من شأنه أن يكون من أهم العراقيل في وجه تطبيق أي مخطط من مخططات التنمية، بسبب حالة الاستقالة واللامبالاة التي ستنشأ في الأوساط الشعبية وفي مستوى القوى العاملة والإطارات التي يُطلب منها أن تسهرعلى إنفاذ خطط التنمية كل في مجاله. وتكون هذه اللامبالاة بمثابة رد الفعل على وضع الكبت السياسي وعدم تشريك جميع أبناء الشعب في رسم ملامح التنمية عبر تشريك تنظيماته السياسية والاجتماعية المممثلة.

وإن ديمقراطية الحياة السياسية بمفهومها الأصيل والشامل تستلزم مراعاة الخصوصيات الحضارية للمجتمع التونسي، وتأصيل كل خطط التنمية في ثقافتنا، حتى يتوفر لدى المواطن مزيد من الحوافز على العمل والإنتاج وصيانة مكاسب البلاد تعبيرا منه على وطنيته. بيد أن نهضة تونس وتقدمها لا يجوز تصورهما بمعزل عن التفاعل التكاملي مع محيطنا العربي الإسلامي  من أجل توفير أسباب الأمن الشامل وتحصين ذاتنا الوطنية إزاء كل أخطار السيطرة الدولية والاسعمار.

لذا يغدو الطموح إلى الوحدة العربية  فالإسلامية والسعي إلى إنجازها أمرا حتميا تمليه الضرورات الحيوية والحضارية.

وأخيرا فإن مشاركتنا في إنجاز هذا الميثاق الوطني تنبع من قناعتنا بأهميته التاريخية والمصيرية، حيث يتحتم على كل أبناء هذه البلاد العزيزة علينا الوقوف على أرضية وطنية واحدة تجمعهم، رغم ما عساه يوجد من اختلافات بينهم في الاختيارات السياسية. وهو أمر يستلزم حدا كبيرا من الوعي المدني والتعامل السياسي من الجميع رغم الاختلاف.

والسلام

الهوامش:


1 سورة الأنفال،الآية 72

[2] سورة البقرة،الآية 256

[3] سورة المائدة،الآية 1

[4] سورة البقرة،الآية 282

[5] سورة الإسراء، الآية 70

[6] سورة النحل، الآية 90

[7] حديث شريف

[8] حديث شريف

[9] سورة البقرة، الآية 208

[10] سورة الأنبياء، الآية 105

[11] سورة النور، الآية 28

[12] سورة القصص،الآية 83

[13] سورة النساء، الآية 97

[14] حديث شريف

[15] سورة الحجرات، الآية 10

[16] سورة المائدة، الآية 8

[17] سورة الحديد، الآية 7

[18] حديث شريف

[19] حديث شريف

[20] سورة الإسراء، الآية 29

[21] حديث شريف

[22] سورة الأنبياء، الآية 92