كانت يومية "تونس نيوز" الغراء قد نشرت في أحد أعدادها السابقة رسالة مفتوحة من طرف قارئ كريم هو السيد الهاشمي العيادي عبر فيها عن ألمه العميق لما يتعرض له الشعب التونسي من مهانة على يد سلطة متغطرسة لم تجد من يوقفها عند حدها مع معارضة مشتتة -حسب تقديره-. وانتهى بتوجيه نداء الى من اعتبرهم زعماء للمعارضة لتوحيد صفوفهم من أجل وضع حد لغطرسة السلطة وفرض احترامها للشعب عبر انجاز التحول الديمقراطي المنشود.. وبعدها تعددت الدعوات المخلصة الى العمل الجبهوي من أجل انقاذ تونس مما تتردى فيه من أوضاع مهينة لكرامة المواطن لم تعهد مثلها حتى في أشد عهود الاحتلال. ومن تلك الدعوات ما صدر عن القاضي الهمام السيد المختار اليحياوي.
أحداث سبتمبر وما تبعها من إرهاب تصب في مصلحة النظام التونسي
ولا يملك المرء إلا أن يبارك هذه الغيرة الوطنية الصادقة ويزكي هذه النداءات الخالصة الموجهة الى المعارضة وإلى مؤسسات المجتمع المدني من أجل تجاوز خلافاتها الصغيرة واللقاء على أرضية عمل مشترك من أجل المصلحة الوطنية العليا في وضع حد لحكم الدكتاتورية الذي تجاوز كل الحدود في استهتاره بالشعب والمعارضة،لا سيما وقد وجدت هذه الديكتاتورية دعما معتبرا في أحداث 11سبتمبر الكارثية وما تلاها من أحداث مثل جريمتي جربة والدار البيضاء وما تلاها من أعمال ارهابية نزلت بردا وسلاما على الفريق الصهيويميني المحافظ المتحكم في البيت الابيض المتلمظ للسيطرة العالمية وضرب الاسلام والحركات الاسلامية كما وجدت فيها مبعث مسرة دول الحل الامني في التعامل مع الحركات الاسلامية، وعلى رأسها دولة الكيان الصهيوني وعدد من الانظمة العربية في مقدمتها نظام 7/11 التي تنفست الصعداء - رغم الاضرار البالغة التي لحقت الاقتصاد من وراء تلك الاحداث - فسارعت كعادتها الى اعتلاء الموجة، متخففة من كثير مما كان يمارس عليها من ضغوط داخلية وخارجية من أجل الانفتاح ولا سيما بعد أن غدت هذه السياسة في "الحرب الصليبية" على الاسلام وحركاته سياسة عليا لأمريكا وحلفائها الصهاينة ودول الحل الامني. لقد كانت الفرصة لكل من له خصومة مع الاسلام وحركاته، مصداقا لقوله تعالى "وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف عقاب؟" (غافر الآية 5) فصعدت سلطة 7/11 حملتها على أنصار الحرية وحقوق الانسان ولا سيما إذا جرؤوا على المس بخطوطها الحمراء فتحدثوا -مثلا- عن فضيحة السجون التونسية ومظلمة قرابة الألف سجين معظمهم نهضويون فدعوا الى وضع حد لمظلمة لم يعرف تاريخ البلاد لها مثيلا والتي قادت الى اهدار حتى ما كان قائما من حريات محدودة ومؤسسات للمجتمع المدني متواضعة وطالت بالقمع حتى هواة الانترنت لتستقبلهم "مضافات" السلطة حتى وإن كانوا أطفالا.
والسلطة إذ تمعن في سياسات القمع والنهب وتجاهل أصوات الناصحين تذهل عن النتائج الكارثية التي يمكن أن تسوق اليها هذه السياسات والتي بدأت طلائعها تظهر من خلال الكارثة التي حلت بالسياحة بعد 11 سبتمبر ولا سيما بعد عملية جربة المؤلمة والمؤسفة. ولا أحد يستطيع أن يؤكد عرضيتها ويتمها مع ما يكشف عنه يوميا داخل البلاد وفي عشرات البلدان خارجها من ارتباط أو شبهة ارتباط عشرات إن لم يكونوا مئات من الشباب التونسي مع منظمات منتسبة الى جماعات العنف، مما ينذر بمزيد من الكوارث ستسفر عنها سياسة السواعد المفتولة والقبضة الحديدية وتدجين مؤسسات المجتمع المدني وتجريم المعارضة الجادة على اختلاف اتجاهاتها والاصرار على الاستمرار في إقصاء الاسلاميين بكل الوسائل والقمع بدون هوادة، لكل من يجرأ على الاقتراب منهم أو الدفاع عنهم ناهيك عن التفكير في عمل مشترك معهم من شأنه أن يشكل خطرا حقيقيا على دكتاتورية طالما تغذت من سياسة "فرق تسد" وضرب جناحي الحركة الوطنية الاسلامي والعلماني ببعضهما. وليس العهد ببعيد عهد الثمانينات حيث كان التنسيق بينهما قد شكل المناخ الاجتماعي والسياسي الذي أدى إلى التغيير، فكانت سياسة العهد الجديد الرهان على منع ذلك اللقاء باعتماد سياسة التخويف والتشكيك وتعميق العداوة والبغضاء وتضخيم اسباب الاختلاف. وللأسف فقد انطلت الحيلة، وتفرق الصف وراجت في اسواق المعارضة السلع المزيفة التي صنعتها السلطة: "التصدي لخطر الارهاب" و"الدولة الدينية الظلامية"، دفاعا عن "مكاسب الحداثة والديمقراطية والمجتمع المدني وحرية وحقوق المرأة"!! واستخدمت أحداث الجزائر فزاعة وشبحا مرعبا لتخويف الناس من "الخطر الداهم" الذي يقتضي التصدي له الالتفاف حول السلطة وتقديم الدعم الكامل لها إلى درجة تتويجها بتيجان حقوق الانسان لدى الدوائر الدولية!!
فيأة إلى الرشد
غير أن قوى المجتمع التونسي ومنذ النصف الثاني من التسعينات بدأت تدرك حجم الكارثة وهول الخديعة، فبدأت الرحلة انفصالا عن السلطة وتعرية لخطابها وصولا الى الدفاع عن مظلمة النهضة وعن مساجينها كقضية انسانية في الحد الأدنى وحتى أكثر من ذلك دفاعا عن حقها كطرف سياسي. ومثلت في هذا السياق ظاهرة الصمود الرائع للمساجين وإضراباتهم المتوالية في مواجهة مخطط إبادتهم أو كسر شوكتهم واحتوائهم وكذا عرائض مئات من المثقفين الاحتجاجية على سياسات السلطة الانفرادية ثم رسالة الاستاذ محمد مواعدة الى راس السلطة والدور الفاعل لمجلس الحريات وجرأته في رفع مطلب العفو التشريعي وكذا تمرد الصحفي ابن بريك والرسالة التاريخية الشهيرة رسالة القاضي الهمام مختار اليحياوي لفضح جريمة العبث بالمؤسسة القضائية واستخدامها أداة قمع وكذا ندوات الحوار التي انعقدت داخل البلاد بمبادرة من التجمع التقدمي الاشتراكي بزعامة الاستاذ نجيب الشابي .. وهكذا حتى وصلنا الى لقاء باريز للحوار بين قوى المعارضة وانبعاث الجمعية الدولية للدفاع عن المساجين.. وأخيرا ندوة مرسيليا بين قوى رئيسية في المعارضة والمجتمع المدني ...
وهي وأمثالها تعبر ولا شك عن تطور لا بأس به، ولكنها لم تعد كونها نوعا من صحو الضمير ومؤشرات على طموح يعتمل في صلب المجتمع: نداء عميقا قويا للتغيير لم تنجح قوى المعارضة في حسن الاستجابة له وإدراجه في إطار رؤية استراتيجية لأوضاع البلاد واتجاهات التطور في جملة الوضع العربي والاسلامي وما يتهدده من أخطار وما يفرضه على المعارضات الجادة من مواقف حازمة لا تنطلق من مبدإ الخضوع لموازين القوة القائمة وللخطوط الحمراء التي ترسمها قوى الهيمنة الدولية والمحلية، لأن ذلك يعني الاستسلام، بل على الضد من ذلك يجب أن تنطلق من استراتيجية شاملة لاحداث تغييرات حقيقية من خلال تعبئة قوى الجماهير ورصّ صفوفها حول مطالب وطنية وقومية عليا، وذلك هو مبرر الانتساب لحركات التغيير.
وليس في ذلك دعوة بالضرورة الى القفز في الفراغ مغمضي العيون وإنما التصميم على تغيير موازين القوة ولو بتدرج جاد، انطلاقا من حسن الظن في الله عز وجل وحسن الظن في الناس في الشعب في الشباب المطحون بمظالم السلطة وانعكاسات خياراتها الاقتصادية : بطالة وغلاء وقهرا وتكميما للافواه، من جهة وترفا فاجرا ونهبا غير محدود لأقوات الشعب من طرف عصابات النهب، وهو ما نشر اليأس واللامبالاة في فئات الى حد تفشي ظاهرة الانتحار بشكل مقلق غير معهود وسط فئات عمرية كثيرة ولا سيما الشباب، وذلك مقابل اعتمال أفئدة فئات واسعة أخرى بالغضب والنقمة حتى غدت مراجل تمور بطلبات للتغيير حادة تنتظر من يحسن تأطيرها. وبهذا الصدد من المهم تأكيد جملة من وجهات النظر وطرحها للحوار منها:
1- أن أصحاب المصالح في المحافظة على الواقع المأسوي الذي يرزح تحت وطأته عموم الشعب لن يفرطوا فيها لمجرد صدور بيانات ولقاءات صالونية أو استجداء تراخيص من أنظمة القمع من أجل تأسيس أحزاب أو جمعيات، فـ "أنظمة الملك راسخة لا تجدي معها إلا المطالبات الجادة" حسب التعبير الخلدوني. إنه في مواجهة سلطة قمعية قد خلعت من زمان رداء الحياء فلا تبالي أن تمارس أشنع ضروب القمع على ملإ من الناس حتى مع من وقف الى صفها، وآخرهم عبد الرحمن التليلي لمجرد صدور كلمة نقد خفيفة أو نصيحة لطيفة. ولم يتردد النظام رغم دعاواه العريضة في تحرير المرأة والتزين بهذا التاج في كل المحافل المحلية والدولية لم يمنعه ذلك من البطش على قارعة الطريق بمناضلات علمانيات مثل السيدة خديجة الشريف والسيدة ابن سدرين، ناهيك قمعا بالاصرار على الاستمرار في تنفيذ خطة الموت المتدرج على المساجين الاسلاميين بل وعلى الآلاف ممن غادروا السجن الصغير الى السجن الموسع والبلاد كلها تحولت الى سجن رهيب يهان فيه كل حر كريم، وما تعرض له الصحفي عبد الله الزواري والصحفي الشاب زهير اليحياوي ليس سوى عينة ورمز لسياسات السلطة، وهي سياسات ماضية قدما في فرضها بكل الاساليب في تجاهل كامل لنداءات المعارضة واتجاهات التاريخ، مما لايبدو معه أي طرف معارض مهما زعم لنفسه من تمثيل شعبي أنه قادر بمفرده أن يضع لها حدا فينهض بمهام التغيير وتشكيل قوة شعبية تحمل السلطة حملا على أن تعترف بإرادة الشعب وتحترمها. إن ذلك يقتضي ولا بد تجميع الشتات المعارض والمستقل وقوى المجتمع المدني في تكتل وطني واسع يملأ عين الشعب وقلبه بالثقة فيه وكفاءته في فرض مطالبه على السلطة، أو فرض الرحيل عليها، وذلك على أرضية مشتركة: تحترم هوية الشعب العربية الاسلامية، وحقه في العيش الكريم واحترام واقعه المتعدد كما هو من دون تحكّم أو اقصاء أو وصاية، وتعترف بحقوق متساوية لكل المواطنين أفرادا وجماعات: في التفكير والاعتقاد والتعبير وتشكيل الجمعيات والاشتراك على قدم المساواة في إدارة الشأن العام حسب ما هو معروف في النظام الديمقراطي المعاصر وما يتوفر عليه من ضمانات تمنع الانفراد بالسلطة بل تفرض تقسيمها وتقيم بعضها رقيبا على بعض، بما يتيح تمثيلا حقيقيا للشعب تتناوب فيه الأغلبية والأقلية على الحكم، حسبما تفصح عنه صناديق الاقتراع الشفافة، وتسترجع فيه البلاد وشائجها مع محيطها المغاربي والعربي والاسلامي، وتؤدي مقتضيات واجباتها القومية والدينية والانسانية في الدفاع عن قضايا الامة الكبرى في الوحدة وفي التصدي للاحتلال الصهيوني والامريكي، والاسهام في كل قضايا التحرر.
إن بلادنا أشد ما تكون حاجة الى مصالحة وطنية شاملة تطوي فيها ولو بتدرج صفحة تاريخ دام من القمع والاحتكار، وتفتح أبواب الامل أمام الاجيال الجديدة التي يدفعها اليأس من السلطة وربما المعارضة أيضا الى الارتماء في أحضان المجهول ومختلف اتجاهات، وذلك ضمن خطة وفاقية جادة تتفق عليها قوى المجتمع السياسي والمدني دون استثناء أو اقصاء، خطة وفاقية تمثل مرحلة انتقالية نحو ديمقراطية حقيقية كانت بلادنا منذ زمان مؤهلة لها. البلاد بحق أحوج ما تكون الى مصالحة جادة بين السلطة والمجتمع وبين قوى المجتمع فيما بينها وبين البلاد كلها وهويتها ومحيطها المغاربي والعربي . ولا معنى لمصالحة من دون اعتراف الجميع بالجميع على أساس اشتراك الجميع على قدم المساواة في حقوق المواطنة بمنآى عن كل وصاية تحت أي عنوان.
ما هي العقبات في وجه تكتل جناحي المعارضة الوطنية والاسلامية؟
ليس عند الحركة الاسلامية التونسية ممثلة بالنهضة على وجه الدقة تحفظات ولا موانع تحول بينها وبين أي شكل من أشكال التعاون مع حركات المعارضة: تنسيقا أو تحالفا أو عملا جبهويا بل إنه منذ أول بيان على الاطلاق أصدره هذا التيار وكان بمناسبة انتفاضة جانفي 78 حيث أدان في غير هوادة الحزب الحاكم وحمّله مسؤولية المجزرة التي اقترفها ودعا قوى المعارضة الى الحوار في اتجاه تشكيل جبهة وطنية تفرض التغيير ولا تقصي إلا من أقصى نفسه. منذ ذلك التاريخ المبكر وهذا التيار الذي تشكل تحت عدة عناوين ظل ولا يزال يؤسس فكريا ويدعو عمليا لضرورة العمل المشترك بين كل قوى المعارضة، على خلفية الدفاع عن الحريات. ولم يفرط في أي مناسبة ليمارس ذلك بقدر ما يستجيب الآخرون. ولقد شهدت عشرية الثمانينيات أشكالا من الحوار والتنسيق والعمل المشترك بين التيار الاسلامي وشقيقه العلماني كانت يومئذ متقدمة جدا بالقياس الى مثيلاتها في البلاد العربية والاسلامية. فانعقدت ندوات صحفية مشتركة بين أحزاب المعارضة الستة يومئذ بعضها في مقر الديموقراطيين الاشتراكيين وبعضها في مقر الحزب الشيوعي وبعضها في مقر حزب الوحدة الشعبية. كما انعقدت عديد اللقاءات المشتركة وصدرت بيانات ومواقف في عدد من القضايا الوطنية ولا سيما الدفاع عن الحريات مثل حرية الصحافة وتشكيل الاحزاب والجمعيات وحرية المساجد ورفض منشور108باعتباره اعتداء على حرية المرأة.. بل قامت تحركات ميدانية مثل المسيرة الاحتجاجية على قصف الطيران الامريكي للشقيقة ليبيا 1986 حيث انطلقت من مقر الديمقراطيين الاشتراكيين بنهج جمال عبد الناصر تقدمها زعماء أحزاب المعارضة وتعرضوا جميعا للقمع حالما وضعوا أرجلهم في الشارع الرئيسي بالعاصمة، وسيقوا جميعا الى مركز الامن بنهج يوغسلافيا، حتى إذا قررت السلطة ضمن خطتها الثابتة في فرض سيطرتها المطلقة على الشعب والزج بالبلاد في بوتقة الاقتصاد الرأسمالي كان لا بد من ضرب التجمعات الشعبية التي يمكن أن تعيق هذه السياسة فبدأت باتحاد الشغل سنة 1986 ثم اتجهت آلة قمعها سنة 1987 إلى حركة الاتجاه الاسلامي بينما وقفت كل قوى المعارضة تدافع عن الاسلاميين منذ انطلاق أول حملة ضدهم سنة 1981سواء أكان ذلك من خلال محاميها المتطوعين أم من خلال بياناتها. وقادت جريدة الرأي طوال سنوات سجنهم (بين 1981و1984) حملات الضغط على السلطة لاطلاق سراحهم توجت بقيادتها لحملة الدعوة الى إصدار عفو تشريعي عام. فلم يجد بوقيبة بدا ولا سيما بعد الانتفاضة المباركة الثانية 1984 من إطلاق سراحهم فاستأنف العمل المشترك سيره بقوة أكبر. وبلغ حد القيام بمسيرات مشتركة كما ذكرنا. وعندما أعلن بورقيبة في اللجنة المركزية لحزبه1986 عن تصميمه في أنه لا يريد أن يخرج من الدنيا وفي تونس اخوانجي واحد!! وانطلقت حملته غير المسبوقة في سعتها ووحشيتها، ووقفت أحزاب المعارضة- مرة أخرى- الى جانب الاسلاميين، ودعمت تحركاتهم في الشارع كما كانت قد فعلت ذلك في محنتهم الاولى سنة81، واستمر هذا التحالف الموضوعي بين التيار الاسلامي والمعارضة العلمانية على خلفية الدفاع عن الحريات وقدم الدعم المطلوب لتحرك الشارع خلال السبعة الأشهر التي سبقت سقوط الطاغية ومهدت له، غير أنه بسبب أن ذلك التحرك كان يغلب عليه الاحتجاج على ظلم بورقيبة ولم يكن مندرجا ضمن مشروع للتغيير متفق عليه بين المعارضة فقد أنضج الثمرة لمن كان متهيئا لالتقاطها.. لقد استمر ذلك التحالف الموضوعي الذي سقط بورقيبة في سياقه وعلى خلفيته حتى تاريخ انقلاب 7-11 الذي أحدث انقلابا خطيرا في الخارطة السياسية وخللا هائلا في التوازن بين الدولة والمجتمع، أوهن من جانب هذا الأخير، إذ استدرج قطاعات من المعارضة وقوى المجتمع المدني فضرب بعضها ببعض مستخدما آلية التهويل والتخويف والكذب والترغيب والاغراء، مستغلا أخطاء استراتيجية وقعت فيها المعارضة عامة سواء الاسلامية أم العلمانية، حيث كانت الأولى مرهقة بملفات ثقيلة منها ملف عشرة آلاف سجين: منهم من صدرت عليه أحكام بالسجن المؤبد ومنهم من يرتفع فوق رأسه حكم بالاعدام مثل علي العريض ومنهم مئات ينتظرون أحكاما مماثلة، فكانت مساحة المناورة أمامهم محدودة لا سيما والسلطة قد فتحت من خلال اعلاناتها أبواب الامل أمامهم، غير أنهم مع كل تلك الضغوط كان يمكن لهم أن يتحاملوا على أنفسهم أكثر ويقتصدوا في إعلان التأييد للسلطة حتى تقطع خطوات جادة لا رجعة فيها على طريق تجسيد الشعارات التي أعلنتها. أما المعارضة العلمانية فما يبدو أنها كانت مرهقة بشيء يحملها على التعجل في إعلان الولاء والتأييد، اللهم عدا ما عساه يكون قد اعتراها من هاجس احتمال تحالف بين"السلطة الجديدة "والاسلاميين من شأنه أن يهمشها. وقد يشهد لوجود مثل هذا الهاجس تذكير بعضهم بما حصل في السودان من تحالف بين النميري والترابي!! والخلاصة أنه قد تحكمت في المعارضة يومئذ مصالح حزبية وهواجس ومطامع ضيقة في التعامل مع الشعارات المرفوعة يوم7/11 .
والدرس المستخلص هو ضرورة التأني والتثبت والصبر على الالم كالصبر على مقاومة الهواجس والرغبات والطمع في الكسب السريع وكذا الحذر من بناء السياسات على الأماني والثقة في البيانات الانقلابية بدل انتظار ما يتنزل منها على أرض الواقع لاتخاذ موقف وبناء سياسة على أساسه، وبذلك نجح انقلاب 7نوفمبر الى حين في وقف المسيرة المبكرة الواعدة للتعاون بين جناحي المعارضة الوطنية الاسلامية والعلمانية والتي لو تواصلت لأمكن لتونس معها أن تفلت من طور حكم العسكر الذي تردت فيه معظم الانظمة العربية، ولأمكن لها أن تشهد أول تجربة ديمقراطية في المنطقة، فلا يتخلف ركبها عن مالي والسنغال واليمن والمغرب وبادية الأردن وإمارات خليجية. لقد نجح انقلاب 7\11 الى حين في استخدام سياسة الترغيب والترهيب و"فرق تسد"، مخلّفا جروحا ومخاوف وشكوكا لم تتمكن المعارضة الوطنية العلمانية- حتى الآن- من تجاوزها نهائيا رغم أن السير ومنذ النصف الثاني من التسعينيات هو في هذا الاتجاه ولكنه سير بطيء لا يخلو من حالات تعثر ونكوص وارتكاس مما لا يتساوق مع وتيرة تطور الحالة الشعبية المتسارع في اتجاه مزيد من الاحتقان والغضب والسخط ينذر بانفجار قد تبدو معه انفجارات 78و84و87 ضربا من لعب الأطفال. ومثل هذه الانفجارات إذا حصلت والمرجح أنها آتية غير بعيد إذا لم يواكبها ويؤطرها ويسير أمامها تكتل وخطاب معارض يملأ عين الشعب والقوى الخارجية ذات المصلحة، يخشى أن لا تعدو مجرد إضافة فرصة أخرى ضائعة -مع جسامة التضحيات- الى الفرص السابقة الضائعة، فرصة أخرى منتظر أن يضعها شعبنا العظيم -مرة أخرى- بين يدي نخبته، فلا تكون- كما لم تكن سابقا- في مستوى تلقي الهدية والتقاط اللحظة التاريخية التي لا يجدي العمل قبلها ولا بعدها.
هذه قناعتنا لم نغيرها منذ أول انتفاضة هزت وعينا السياسي في العمق (جانفي 78) وأيقظتنا وفتّحت بصائرنا وأبصارنا على عظمة هذا الشعب وأصالته وقدرته على اختزان غضبه وتجميعه لوقت طويل يبدو خلاله وكأنه ميت أو لا مباليا ولكنه في الحقيقة يجمّع ويراكم غضبه متربصا بظالميه الدوائر، يتحين الفرصة، حتى إذا جاءت واستكمل تفاعلاته فاض كأسه وانطلق كالسيل الجارف صانعا في الشارع جبلا فارضا على السلطة التراجع والانحناء أمامه، ولو الى حين: "رجعنا فين كنا" حسب تعبير بورقيبة في مواجهة انتفاضة الخبز. غير أن النخبة لم تواكب وتيرة غضبه بل هي في الغالب تحمرّ أوداجها ثورة وغضبا عندما يكون الشعب باردا ولمّا تبلغ تفاعلاته درجة الغليان، فتنفرد بها السلطة وتفترسها، بينما هي تحجم وتتردد وتزورّ عندما يفيض طوفان الشعب غضبا. إنها مأساة النخبة.
تحفظات علمانية
وإذا كان للعمل المشترك بين جناحي الحركة الوطنية سوابق كان منتظرا أن تكون الآن قد بلغت حالا متقدمة من النضج اليوم تفوق ما عليه حال كثير من التيارات الاسلامية والعلمانية في بلاد عربية واسلامية كثيرة من التعاون، والعمل المعارض المشترك أو تشكيل حكومات ائتلافية كما حصل مرات في تركيا واليمن والجزائر وفلسطين والاردن وبنغلاديش وماليزيا وإندونيسيا.. الخ
لقد كان الطرف الاسلامي- في الحالة التونسية- قد استوت قناعته النظرية والعملية بأهمية العمل المشترك، منذ زمان طويل إلا أن الطرف الآخر ظل يقدم خطوة ثم لا يلبث أن يتراجع عنها مسوغا ذلك كل مرة بتحفظات. فما هي تلك الموانع والتحفظات- على وجه التحديد- التي لا تزال رغم تصاعد الأحداث تحول بينه وبين الاقدام على اقتحام العقبة الضرورية لكل خطة استراتيجية جادة على طريق تغيير جاد لموازين القوة في بلادنا اليوم؟
إذا تتبعنا نصوص وخطابات قومنا في المعارضة العلمانية بهذا الصدد من مثل ما صدر عن صديقنا الاستاذ أحمد نجيب الشابي أو الاستاذ حمة الهمامي بيانا للموانع التي تحول دون هذا التيار والعمل المشتركة مع الاسلاميين ممثلين في حركة النهضة المجرى الرئيس للحركة الاسلامية التونسية فإن هذه الموانع لا تكاد تخرج عن اثنين: الأول طبيعته فكرية- وعليه يبدو تركيز الهمامي: أحد أبرز رموز التطرف العلماني- وسياسي- وعليه تركيز الشابي: أحد أبرز رموز الاعتدال العلماني.هذا إذا صح تقديرنا في الحالين.
ملاحظة جديرة بعدم الاغفال لدى الرجلين وتتمثل في دفاعهما عن الحقوق الانسانية والسياسية للاسلاميين من مثل المطالبة بعفو تشريعي يشمل الجميع وتمكين الاسلاميين على قدم المساواة مع الآخرين من الحقوق السياسية. ولئن كان هذا الموقف واللغة الرصينة التي تحدث بها الاستاذ حمة عن الاسلاميين تمثل تطورا مهمّا من قبل حزب صكّ أغلظ المصطلحات في الحديث عن الاسلاميين مثل مصطلح الظلامية- ولا ندري مدى ثبات الحزب على اللغة الجديدة بل هناك مؤشرات نكوص الى لغة الماضي- فإن الأمر بالنسبة للحزب الديموقراطي التقدمي لا يعد بأي مقياس تطورا بل تراجعا عن المستوى الذي بلغه العمل المشترك في الثمانينيات حيث وصل الى حد التحركات الميدانية -كما سبق- وكان حزب الشابي الأقرب الينا. ولا ندري كذلك على وجه اليقين مدى استقرار هذا التقويم ورسميته. ونحن هنا لم نتحدث عن زعيم حركة الديمقراطيين الاشتراكيين الاستاذ محمد مواعدة فقد كان الاسبق الى اللقاء بالاسلاميين والاجرأ على توقيع بيان معهم دفع ثمنه غاليا. ولا حديث كذلك عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المرزوقي فصفحة الرجل في الدفاع عن الحريات وعن الاسلاميين وعن العمل المشترك من دون تحفظات وحسابات مشرقة ومشرّفة
الموانع الفكرية من العمل المشترك
ولهذه الموانع أوجه متعددة أهمها حسب تعبير الاستاذ الشابي إيمان التيار الذي ينتمي اليه بذاتية للانسان مستقلة تنبثق عنها حقوق لازمة بينما الحركة الاسلامية في فهمه لا تؤمن بذلك بل تؤمن بمرجعية الوحي العليا مصدرا للحقوق والواجبات. وقد يتفرع من ذلك إيمان الحركة الاسلامية بسلطة تشريعية تعلو مؤسسات الدولة وتمارس الوصاية عليها مما يؤثر في التشريع وفي حقوق الانسان وبالخصوص حقوق المرأة التي تمثل هاجسا يحضر بقوة كلما ذكر الاسلاميون، وكأنهم الخطر الجاثم المتربص بحقوقهن.
وبهذا الصدد نكتفي بإثارة النقاط التالية
1- إن الايمان بذاتية للانسان تنبثق عنها حقوق لازمة هو ولا شك من جوهر الفكر الليبرالي وهي فكرة أساسية لم تعرف في السياق الغربي إلا مع النهضة والاصلاح وما انبثق عنهما من ثورات، إلا أن هذا الفكر الذي أنتج الديمقراطية وحقوق الانسان طالما تعرض لأشد الحملات من قبل المدارس الاجتماعية ومنها المدرسة الماركسية على أنه فكر بورجوازي هو في خدمة الرأسمالية على حساب الطبقات المقهورة التي يهمها قبل كل شيء خبزها وضمانات عيشها. أغرب ما في الأمر أنه بعد سقوط جدار برلين وما تلاه من انهيار الفكر والمعسكر الماركسيين انطلقت رحلة جماعية وسريعة من طرف جماعات وأحزاب ماركسية أو قريبة منها في اتجاه الانضواء تحت معسكر الفكر الليبرالي الذي طالما أوسعوه شتما، فحلّ في بيوتهم التأثيث اللبرالي من ديمقراطية وحقوق انسان وحتى الاقتصاد الحر محل الأثاث الماركسي البالي. وكان يمكن لنا أن نعتبر هذا تطورا إيجابيا لو سبق من ناحية بنقد ذاتي جاد لما عرف عن القوم من فكر وممارسة. ولو أنه اقتصر من ناحية أخرى على هذه النقلة التي من شأنها موضوعيا أن تضيق الشقة بيننا وبين إخواننا في المعارضة الماركسية وشبيهاتها، ولو لم ينتصبوا من ناحية ثالثة محتكرين للديموقراطية مصرين على إخراجها عن كونها نظاما من التسويات والوفاقات الحسنة بين القوى المتصارعة من شأنه أن يدرأ العنف والانفراد سبيلا لحلّ التناقضات ويحقق تداول السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع على أساس الاعتراف للجميع بحق المساواة في المواطنة وما يترتب عنه من حقوق متساوية للجميع.إن إخراج الديموقراطية من هذا التصوّر الاجرائي الأداتي إلى اعتبارها فلسفة علمانية تقصي الدين من شؤون المجتمع وتجعل الدولة حيادية إزاء كل الأديان –حسب ما يفهم من موقف الهمامي أو تفرض وصايتها عليه، كما يفهم من موقف الشابي- بما يشبه ما هو قائم اليوم من تمليك الدولة كل ما هو ديني- إنه ضرب من التحكّم وإمعان في الخلاف وبحث عن سبل تعميقه وتوسيعه كما أن هذا التيار يشبه أن يكون قد فرض وصاية على حقوق الانسان، تقيم نوعا من التصادم بين الديمقراطية وحقوق الانسان من جهة وبين الاسلام والحركة الاسلامية من جهة أخرى. ولا سبيل لرفع هذا التناقض إلا بإقصاء الاسلام جملة من شؤون المجتمع أو تطويعه لمقتضيات الفكر المعاصر أو ما يظن كذلك كما فعلت البورقيبية. إن علمنة الإسلام أو تمسيحه أو مركسته رهان بائس يائس ومن دون مستقبل. ولأن الحركة الاسلامية ترفض الأمرين: إقصاء الاسلام أو تطويعه فاللقاء معها بحسب المجموعتين المذكورتين –فيما يبدو-غير ممكن. يبدو كأن هذا هو جوهر الاعضال في طريق اللقاء والعمل المشترك مع أن احترام الديمقراطية أداة لتنظيم الاختلاف بطرق سلمية، وكذا احترام حقوق الانسان لا يحتاج كلاهما-ضرورة- الى أدلجة تهمش الاسلام أو تستهدف تطويعه. فحقوق الانسان وكذا الديموقراطية لا تفرض ضرورة-لدى كل متعمق في دراسة الاسلام نظرا وتطبيقا وفي دراسة مبادئ الديمقراطية وتجارب تطبيقاتها المعاصرة تلاقيا أو تباينا ضروريين. فالعلمانية والديمقراطية قد يلتقيان كما هو الحال في الليبراليات الغربية ويمكن أن يفترقا كما كان الحال في الانظمة الفاشية والماركسية والأتاتوركية والبورقيبية حيث علمانيات ولا ديمقراطية. وبالمقابل لا يمتنع وجود ديمقراطيات على خلفيات دينية مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية وكلها موجودة. فلم تصور أن الممانعة حتم لازم في نطاق الدين الإسلامي وحده؟ بينما هو الايسر تفاعلا مع النظام الديموقراطي بسبب غياب سلطة دينية تنطق باسم السماء فما يبقى غير اجتهادات البشر وحرية عقولهم المطلقة التي لا يبقى أمام كثرة ما سيتولد منها من فيض اجتهادات من سبيل لاختيار واحد منها دليل عمل غير خيار الناس بإجماعهم أو بأغلبيتهم، فضلا عما يميّز الإسلام من اهتمام بكل ما هو دنيوي والاحسان فيه سبيلا لما هو أخروي"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض" القصص 77. وعلى كل حال فإن دينا قام على مبدإ تكريم الانسان باعتباره انسانا مستخلفا عن الله وهبه العقل لتسخير هذا الكون وعمارته بالعدل وأرسل اليه الرسل عونا له، وجعل ختم النبوة إعلانا عن ترشد عقل الانسان واقتداره على السير منفردا مهتديا بعقله وبنور الوحي عبر الاجتهاد والشورى، إن دينا مثل هذا جدير أن يسعد بكل خطوة يخطوها العقل في اتجاه الاعتراف بذاتية للانسان متعالية عن كل اعتبار ثانوي من لون وطبقة وجنس، معترف لها بحقوق ثابتة في الحياة الكريمة، ومنها الحقوق السياسية، مثل المشاركة في الشؤون العامة عبر آليات الديمقراطية المعروفة التي لا تعدو كونها جهازا لتنظيم الشورى، يمكن أن يعمل بنجاح في إطار أرضيات ثقافية وفلسفية مختلفة، وذلك بعد نقلها من مستوى كونها قيمة ومبدأ الى وضعها نظاما للحكم. إن الاسلام لا يمكن إلا أن يكون سعيدا بهذا التطور الذي نقل حكم نظام الفراعنة الذي طالما ذكّر به الاسلام وأوسعه إدانة وشتما، الى حكم الغالبية المستضعفة المقهورة. ذلك هو مراد الله عز وجل ومقصد من مقاصد الشريعة نطق به الذكر الحكيم"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون" القصص 6
2- ولكن قد يسألون عن أي إسلام نتحدث؟ نعم قد تعددت في الاسلام المدارس والاجتهادات كما تعددت في غيره من الايدولوجيات الكبرى، ولكن ذلك -إذا لم نركب مركب السفسطة- لا يلغي وجود عمود فقري أو مجرى رئيسي لكل دين أو مذهب يجعل له هوية متميزة حتى وإن تعددت الالوان داخلها. فهل يتصور أحد اسلاما من دون إيمان بجملة من العقائد في الله والرسل واليوم الآخر وتسليم بجملة من الواجبات كالصلاة والصيام والزكاة والحج وكون المؤمنين أخوة وأمة من دون الناس، وكذا التسليم بجملة من المحرمات في المأكولات والمشروبات والاخلاقيات والمعاملات مما يشكل قاعدة فكرية وقيمية لنماذج اجتماعية مهما اختلفت بحسب تعدد البيئات والعصور تظل معها قواسم مشتركة قائمة يعرف ويميز بها أهل الاسلام من غيرهم. نعم ليس في الاسلام كنيسة تهب وتحرم صكوك الغفران ودخول الجنة، بما يبقي باب الاجتهاد الجاد مفتوحا، ولكن ذلك لا يصل الى حد التسليم بالنسبية المطلقة لقيمه وتعاليمه، فهناك في الاسلام نصوص متشابهة أي نسبية المعنى وهناك المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، شان جملة من العقائد والواجبات والمحرمات والاخلاقيات والتشريعات التي جاءت بها نصوص من الكتاب والسنة لا تحتمل بحسب قانون لغة العرب غير معنى واحدا. ولقد تعهد منزل الكتاب الخاتم والطبعة الأخيرة لتعاليمه بحفظ هذا الكتاب نصا ومعنى عبر تواصل راي عام في الامة "الاجماع" ملتفا حول أساسيات الدين مستأمنا على الوحي. لقد تعهد الله عز وجل بحفظ الذكر"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"الحجر9. كما تعهد باستمرار اجتماع الامة على هديه. ورد في الحديث تأكيد من لا ينطق عن الهوى عليه السلام "لا تجتمع أمتي على ظلال" ولكم أن تتأملوا في المكانة التي يوليها الاسلام للامة ومدى الثقة فيها أنها المستأمنة على الدين لتدركوا مدى عمق اللقاء بين الاسلام والديمقراطية باعتبار هذه الاخيرة : جملة من الاجراءات للتعبير عن إرادة الامة في نظام سياسي سيكون لا محالة مترجما من جملة ما سيترجم عنه عن ثقافتها وقيمها. ومن التبسيط الذي يبلغ حد السذاجة تصور نظام سياسي خارج عن سياق ثقافة وقيم الامة التي يحكمها اللهم إلا أن يكون احتلالا أو دكتاتورية عمياء.
3- إن النظر الى الايدولوجيات على أنها جزر مغلقة ليس نظرا حكيما ولا واقعيا فالجسور بينها كثيرة وما فتئت وتفتأ تتبادل النفع وتتثاقف. ولم يشذ المسلمون قديما وحديثا عن هذه القاعدة، فكما تعلم اليونان من المصريين والبابليين تعلم المسلمون من اليونان والفرس والروم والهنود، ثم تعلم الغربيون من المسلمين ليس فقط في مجال الطب والصيدلة والهندسة والحساب الزراعة والعمارة بل أيضا في الفلسفة والاخلاق ومناهج وتنظيم المدن ..الخ. ولم يتردد رواد الاصلاح الاسلامي المعاصر منذ خير الدين والافغاني ومن جاء بعدهم من الدعوة الى جواز "الاقتباس" عن حضارة الغرب مما هو نافع ويتساوق مع ديننا. فما المشكل في أن نقتبس عن الغرب ديموقراطيته ونرسيها على قيم الاسلام الانسانية بديلا عن منابتها القومية والعرقية حيث تقف الديمقراطية الغربية عند حدودها لا تعدوها، وخارج ذلك للغربي أن يفعل ما يشاء، بينما قيم الاسلام - حلاله وحرامه- مطلقة "ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى. المائدة الآية 8 "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الأقربين" النساء الآية 135. لا مانع دينيا من الافادة من كل خبرة أو فكرة ثبت نفعها فالحكمة ضالة المومن يلتقطها أنى وجدها.وفي رسالة الفقيه الفيلسوف ابن رشد "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" تأسيسات مهمة لهذا الاصل من أصول السياسة الشرعية في الاسلام، لا سيما وقد اتفق علماء الاصول كما ورد في موسوعة الشاطبي الشهيرة "الموافقات" أنه من ثوابت الاسلام أنه إنما جاء لمصلحة البشر وأن كل ما ثبت صلاحه وعدله فهو من الاسلام وإن لم يأت به وحي وكل ما خرج من العدل الى الظلم ومن المصلحة الى المفسدة فليس منه وإن بدا الأمر غير ذلك. كما أكد ذلك العلامة السلفي ابن قيم الجوزية
4- ولكن إذا اختلف الناس حول ما هو عدل وما هو ظلم ولم يكن في ذلك من الوحي الصريح ما يهديهم فليس أمامهم غير التشاور العام والخاص حتى يستبين الصواب ويترجح. وعلى هذا الصعيد يمكن لآليات الديمقراطية مثل حرية الصحافة وحرية البحث والمناظرة وكذا الاستفتاءات والمجالس النيابية أن تسهم في التنضيج وبلورة الإجماع والحسم نهاية عبر آلية من آليات الديموقراطية المعروفة.
5- وحتى في مجتمع لم يتوافق أهله بعد على أرضية عقدية مشتركة يرجعون اليها حكما أعلى- كما هو البادئ في أكثر من وضع عربي ومسلم-، فانه يمكن لقواعد دستورية في تنظيم الاختلاف أن تحفظ اجتماعهم بمنآى عن الفوضى أو التسلط. فيعترف الجميع للجميع بصرف النظر عن الحجم بكل حقوق المواطنة والتنافس على خدمة الجماعة عبر تأسيس الاحزاب وسائر مؤسسات المجتمع المدني من صحف ونقابات ومدارس ومساجد، بما يضمن العدل للجميع بعيدا عن القمع والاقصاء ويحقق التناوب على السلطة حسب قواعد النظام النيابي المعروفة في زمننا. وتقدم مجتمعات عربية مثل لبنان صورة من صور التوافق في مجتمع متعدد. على أن الاصل هو أن الديموقراطية وهي أفضل ما هو موجود من صور تنظيم الاختلاف في المجتمع إنما تعمل بنجاح ويسر عندما يتم توافق بين النخب على نمط مجتمعي معين، فيكون تداول السلطة لا بين النقيض والنقيض وإنما بين الشبيه والشبيه - كما نبّه الى ذلك الاستاذ هشام جعيط. ولكن الى أن يظهر بين النخب ويتبلور توافق فلسفي ومجتمعي يمكن أن تتم بين عائلات النخب تسويات تعبر عن نفسها في وثائق دستورية تتأسس على إقرار التعدد والتداول على كل المسؤوليات وتنظيمهما، والتشديد على رفض كل صور الاقصاء والاحتكار والشخصنة للسلطة، وذلك بحشد كل ضمانات توزيع السلطات على أوسع نطاق ممكن بما يمنع نهائيا الانفراد بالسلطة وجمعها في يد فرد واحد أو جماعة واحدة. ومن ذلك التضييق الى أبعد الحدود من سلطان الدولة المركزي لصالح المجتمع المدني ولصالح الحكم المحلي: البلديات والولايات والمعتمديات والمشيخات على أن تكون المسؤوليات فيها بالانتخاب ويوسع من صلاحياتها في التشريع ورعاية شؤونها ليتفرغ الحكم المركزي لعدد محدود من المهام المراسمية وأمثالها مما يتعلق بشؤون الدفاع والعلاقات الخارجية. إن ذلك من شأنه أن يعطي أوسع الفرص لمشاركة أوسع وأكبر قدر ممكن من الاتجاهات الفكرية والسياسية والتداول بينها بعيدا عن الاحتكار المستند لمجرد الحصول على الأغلبية. ومما يعزز هذا الخيار أن وطننا ليس مهددا بالانقسام والحمد لله حتى يحتاج الى حكومة مركزية عملاقة تبتلع المجتمع وتقزّمه في النهاية استضعافا واستغلالا، بل هو من أكثر مجتمعات العالم تماسكا وتقاربا بعيدا عن الصراعات المذهبية التي حسم أعلام الفقه المالكي من وقت مبكر أمرها فأراحوا البلاد من الفتن الطائفية التي تكتوي بنارها كثير من المجتمعات .ويبدو أن النظام الحالي هو أول نظام في تاريخ البلاد يعمد الى تمزيق هذه الوحدة من خلال التشجيع على إشاعة فكر التطرف السلفي التكفيري والشيعي-ولا حول ولا قوة إلا بالله-
6- وتقدم التجربة التاريخية للتطبيق الاسلامي -إضافة إلى تجارب الديموقراطية المعاصرة -مجالات واسعة للتعامل مع الاختلاف في إطار الوحدة من ذلك ما عرف في زمن السلطنة العثمانية بنظام "الملل" حيث تتعامل الدولة مع شعبها أو قل شعوبها باعتبارهم تجمعات عرقية أو دينية أو لغوية تعينهم على تنظيم أوضاعهم الداخلية بما يتفق ومعتقداتهم فيكون لهم نظامهم التعليمي الخاص بهم ومحاكمهم ومجالس شوراهم أو برلماناتهم المحلية.. إذ القوانين نفسها يمكن أن تتعدد فيختار الفرد نظامه القانوني الذي يحتكم إليه من خلال المجموعة أو الطائفة التي ينتمي إليها ومثل ذلك حاصل اليوم في كثير من الأنظمة الفدرالية مثل ألمانيا والولايات المتحدة والهند والبلاد الأسكندنافية حيث تتعدد أنظمة التعليم مع استبقاء قسم منه –النصف أو الثلث- مشتركا وتتعدد الأنظمة القانونية فيكون العمل الواحد كالإجهاض مثلا أو تعاطي بعض المخدرات مباحا في ولاية محظورا في أخرى. بل إن تعدد الانظمة القضائية ممكن داخل الولاية الواحدة مثل تجربة المحاكم الشرعية والمدنية والمحاكم الشرعية ذاتها فقد كانت في تجربة الحكم الاسلامي التاريخية متعددة تعدد المذاهب الإسلامية. ذلك ان تصور القانون على أنه تعبير عن إرادة الدولة هو نموذج فرنسي نشأ في ظروف خاصّة. وفي العالم اليوم تجارب كثيرة لتنظيم الاختلاف داخل المجتمع الواحد، لا عبر القهر وفرض وجهة نظر واحدة واستخدام أدوات قمع الدولة لحذف وجهات النظر الأخرى وإنما بقبول مبدإ التعاقد الميسر واتساع الصدور للقبول بالاختلاف وتنظيمه وإثراء الحياة به بدل استهدافه بالاستئصال. وفي القرآن الكريم توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن اليهود أن لا يلزمهم بالقانون الاسلامي "الشريعة" لا في مجال شؤونهم الأسرية من زواج وطلاق ولا حتى فيما يتعلق بالعقوبات الجنائية، أمر النبي أن يترك ذلك لاختيارهم الاحتكام إلى الشريعة من عدمه: "فان جاؤوك فاحكم بينهم او اعرض عنهم" المائدة 42. ومعناها صريح في تمكينهم من حق اختيار الاحتكام إلى شريعة الإسلام أو شريعتهم. بينما لم تقتصر العلمانية المسلحة باليعقوبية الفرنسية أو بالفاشية الماركسية أو النازية التي تؤله الدولة على فرض نظام قانوني واحد للدولة وفرضه على كل الرعايا بالقوة – مهما تباين ذلك ومعتقداتهم-في حين أن في الاسلام متسعا سواء أكان بالاقتباس عن تجربتنا التاريخية أم كان بالاقتباس عن التجارب المعاصرة خارج المنظور الفرنسي أو الفاشي أو الماركسي في الولايات المتحدة واسكندينافيا والهند وماليزيا وسويسرا حيث تتعايش داخل الدولة الواحدة أنظمة قانونية وتعليمية متعددة؟ أليس ذلك من شأنه أن يفتح مجالات أوسع للديموقراطية والتعايش بين المختلفين ويزيح هاجس الخوف من كل مجموعة وطنية أنها لو حكمت الأخرى لفرضت عليها نمط حياتها الخاص بها وحرمتها من العيش وفق ما اختارت من قيم ونظم؟ أليس في ذلك دعم وانتصار وتعزيز لسلطان المجتمع المدني وحرية الأفراد وترجيح لجانب المجتمع والأفراد على الدولة. ويبقى للدولة رعاية شؤون الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية والأخذ بيد الضعيف.
7- إن من التبسيط بمكان اعتبار أن الاتفاق في الرؤيا الايديولوجية كالاسلام أو الماركسية كاف ليجعل المؤمنين بها صفا واحدا في وجه من لا يومن بها. حقائق الواقع والتاريخ لا تشهد لذلك بل تشهد أن الصراع والتقاتل بين أهل الايدولوجيا الواحدة لم يكن أقل عنفا أو فتكا من التقاتل بين أبناء الملة الواحدة فالقتال بين المسلمين عبر تاريخهم وكذا القتال بين النصارى لم يكن أقل فتكا من قتال هؤلاء مع أولئك.وهو ما يشهد على خطإ المبالغة في تصديق دعوى صراع الحضارات.ولذلك فإن المبالغة في التركيز على المسألة الثقافية -على أهميتها- واعتبارها الركن الأعظم في العمل المشترك واعتبار عدم توفرها بين الاسلاميين والعلمانيين في بلدنا هو العائق الأعظم في طريق العمل المشترك، لا يستقيم وذلك بسبب:
أ- أن الصراعات التي قامت في الجامعة-مثلا- بين الاتجاهات الطلابية ولا تزال ممتدة وكان بعضها دمويا لم يكن مستندها دائما إيديولوجيا أي الاختلاف في التصورات الفلسفية والانماط المجتمعية وإنما كان كثير منها ولا يزال ذا طابع سياسي انتماء لهذا الحزب أم ذاك من نفس الطيف الايديولوجي بل أحيانا كان طابعها شخصيا: صراعا على الزعامة.
ب- إن توحيد الفصائل الماركسية داخل الجامعة وخارجها كانت باستمرار تقوم في طريقه العقبات وتمنع تحقيقه وحتى لما انفردوا بالساحة وغيب منافسوهم بالقوة عجزوا عن العمل في منظمة واحدة..
ج- إن التوافق –أحيانا- على أرضية سياسية مشتركة بين المختلفين إيديولوجيا قد يكون أيسر من الاتفاق مع اخوان العقيدة، وذلك بسبب أن الجدل العقائدي عقيم لأنه يتحرك غالبا في مناطق غير قابلة للمساومة بينما السياسة تتحرك على أرضية قابلة للتفاوض ليست لغتها الحلال والحرام، أو الوطنية والخيانة وأمثالها وإنما لغتها المصالح وهذه قابلة للتسويات. ولذلك أمكن مثلا في الجامعة أن يلتقي اسلاميون مع فصائل ماركسية وقومية- حول مطالب مشتركة بينما تعذر اللقاء مع فصائل اسلامية مثل حزب التحرير وأمثاله من الفصائل التي تدعي احتكار الحقيقة الاسلامية وتستخدم لغة التكفير مع مخالفيها. ولو أن المسألة الثقافية كانت الحكم الأول والأخير في كل التحالفات لما قام صراع تناف بين الحركة الاسلامية والسلطة بينما تحالفت معها أطراف ماركسية، ولا يزال بعضها هناك متغلغلا في أجهزة السلطة بما فيها أجهزة القمع، في حين يعتبر البعض أن السلطة من وجهة النظر الايديولوجية قد تكون أقرب الينا من جلّ أحزاب المعارضة ذات الأيديولوجيا العلمانية المتطرفة، إذ لايزال دستور البلاد ينص على إسلامية الدولة وتتحفظ على بعض الوثائق الدولية رعاية للاسلام بينما نجد أطرافا كثيرة في المعارضة تدفع الى علمنة الدستور صراحة والتخلي عن البند الذي ينص على هويّة الدولة: العروبة والإسلام وكذا التخلي عن كل ما بقي في القانون التونسي من فصول متأثرة بالشريعة الاسلامية. ولكن التحالفات السياسية قديما وحديثا لم تكن العناصر الايديولوجية هي دائما عامل اللقاء أو الافتراق فيها.
مجلة الاحوال الشخصية
8-ثم إننا لو دققنا النظر وتجنبنا أسلوب المبالغة وكذا التهوين مما هو مختلف فيه وجردناه من الجزئيات واسلوب التقميش أي البحث عن أي شيء لتجميع وتكديس وتكثير نقاط الاختلاف من مثل ما ذكره الاستاذ الهمامي من أفعال قام بها اسلاميون في مشارق الارض أو مغاربها أو قام بها أفراد معزولون أو هي أفعال مدّعاة لا سند لها، نسبت الينا! ولو أننا أرخينا الزمام وانزلقنا في الجدل لذكرنا من فعال الرفاق داخل البلاد وخارجها الكثير. إذا جردنا موضوعات الاختلاف ووضعناها الى جانب ما هو متفق عليه سنجد أن الأمر يدور حول مسألتين: الأول التخوف أو التخويف من الاسلاميين على الاصلاحات التي أدخلها عهد الاستقلال على قوانين الاسرة ممثلة في مجلة الأحوال الشخصية والتي تحولت في يد السلطة إلى مصدر ابتزاز للنساء والرجال ولاستدرار المعونات الخارجية وللتغطية على الجرائم المقترفة في حق الشعب التونسي رجالا ونساء. مغفور للسلطة أن تقترف أي جريمة تشاء ما دامت بين الحين والآخر تعطي رشوة لقطاع محدود من النساء. إن كثيرا من هذه الاصلاحات كانت قد وردت في المجلة الأصلية استجابة لمطالب الحركة الاصلاحية وتبلورت في مشروع كان قد أعده الشيخ عبد العزيز جعيط كمشروع اجتهادي اسلامي انطلاقا من مبادئ الاسلام في المساواة بين الجنسين وتوفير ضمانات لاستقرار الاسرة ولو بالحد من سلطة أساء الأزواج التصرف فيها وضمانا لحقوق المرأة المطلّقة. ولذلك اعتبر الاسلاميون أن هذه الاصلاحات في أغلبها يمكن اعتبارها مندرجة ضمن الاجتهاد الاسلامي. وأمام العقل القانوني المنفتح امكانات واسعة للتوفيق والسيطرة على الاختلاف عند حدود ترضي الجميع، وتقدم الحلول الناجعة لما يتبدى في المجتمع من مشكلات حقيقية، وتكون متساوقة مع ثقافة أمتنا التشريعية والقيمية المنبثقة من الاسلام وتراثه والمعبرة عن اتجاه الرأي العام، وهو ما يبدو أنه مغيظ لبعض النخب أن تتطور تشريعاتنا في هذا الاطار بل تعتبر ذلك عيبا وقيدا يجب التحرر منهما، حتى بلغ البعض الى حد تحريض أجهزة القمع على مواطنات فقط بسبب اختيارهن الحر لزي لا يروق للذوق العلماني، مع أن أصحابه أحرص ما يكونون على رفع شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان. بل لم يتردد بعضهم أو بعضهن من تحريض الدولة على تغيير بعض أجزاء المجلة التي لا تزال تحترم مرجعية الاسلام على نحو أو آخر. ولما سئلت: فكيف إذا كان ذلك لا يرضى عامة الشعب لم تتردد في دعوة السلطة الى عدم المبالاة بذلك ما دام ذلك يحقق العدل، حسب تصورها للعدل. والسؤال ما العمل داخل الوطن الواحد إذا اختلف الناس في تقدير ما هو عدل مما ليس عدلا ماذا يفعلون غير إدارة الحوار بينهم ثم إعمال آليات الديمقراطية؟ والبديل عن ذلك فيما يبدو من دعوتها هو ممارسة الدكتاتورية باسم شرعية التحديث باعتبار عامة الناس جهة متأثرون بفكر أصولي ماضوي. مع أن في المجال متسعا لحلول أخرى. هل أخطأ من قال إن التغريب والدتاتورية متلازمان؟ غير أنه ومهما حرص البعض على فرض وجهة نظره في هذا الصدد على أنها وحدها الحل الوحيد فستظل الاختلافات قائمة والمشكلات تتوارد وليس من حل لها مبرإ من المآخذ. والمتابع لمسار الجدل في الغرب حول مسائل الجنس والاسرة يدرك مدى عمق الاختلافات التي تقسم المجتمعات جبهات متحاربة حول الاجهاض وحول الصلاة في المدارس وحول تمويل الدولة لنشاط الجمعيات المدافعة عن العذرية (انظر ملحق الغارديان ليوم 8-9-2003)وكذا أعدادها السابقة حول الزواج المثلي الذي كاد يعصف بالكنيسة الانغليكانية بسبب زواج قس من آخر،-والعياذ بالله- فانتصرت لهما كنائس في بريطانيا وكندا واعترضت عليهما كنائس افريقية ،اتهمت بالتأثر بالثقافة الاسلامية ولم يمنعها ذلك من التهديد بالانشقاق اذا لم يتم طرد الزوج الشاذ ويمنعا من إمامة المصلين يوم الأحد.فهل علينا معشر العرب والمسلمين أن ننتظر أن يطلع علينا أحد دعاة تحرير العلاقات الجنسية من توجيهات الشريعة مطالبا بمثل ذلك مدافعا عن زيجات من هذا القبيل أو قريبة منها؟ وما المانع إن لم يكن شرع علوي.؟ قال تعالى:"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت الارض" المؤمنون الآية 71. أوليس ذلك هو النتاج الحتمي لما يمكن أن يفضي اليه الاجتهاد غير المتقيد بالنصوص؟
والمراد من كل ذلك أنه ليس المهم أن تفق على هذا القانون أو ذاك لتنظيم جانب جزئي من نشاط المجتمع فالجزئيات كثيرة وقابلة للتبدل وإنما الاهم من ذلك الاتفاق على الإطار العام الذي تدور فيه كل مناشط المجتمع وتتطور، والاتفاق كذلك على آليات لإدارة الاختلاف سلميا، وما هي القضايا العامة التي لا مناص من موقف موحد حولها؟ وكيف نصل اليه؟ وآليات تطوره؟ وما هو الخاص وكيف السبيل لتوسيعه إن على مستوى الافراد أو على مستوى الجماعات: في كل مستوياتها الجهوية والبلدية والمذهبية.. ويقدم نظام الملل في الحكم العثماني والاسلامي عامة وكذا نظام الحكم الفدرالي – مخارج مهمة وحلول للمنازعات الحاصلة بين فئات أمة واحدة إذ كلاهما يحرص على التضييق من صلاحيات المركز ونفوذ العام لصالح توسيع صلاحيات المناطق والجماعات الاهلية والدينية وذلك في تحرر من النموذج اليعقوبي للدولة التي تحرص على صهر المجتمع كله في نطاق واسع يضيق حتى بمجرد قطعة قماش تضعها فتاة على رأسها فتحرم بذلك من حقها في التعلم والشغل وربما حتى حق الاستخدام الآمن للطريق.لم هذا الضيق وفي تجربتنا التاريخية والتجارب المعاصرة متسع للاختلاف والتنوع من طريق التضييق من صلاحيات المركز لصالح أجزائه. بما يجعل المهم هو ضبط الآليات التي تدار بها الاختلافات وليس فرض وجهة نظر ومصادرة الاخرى لأن هذا سيفرض قهرا مزمنا فيكون التداول هو بين قهر وآخر.
مسألة الحدود
9- أما المسالة الثانية التي كثيرا ما ترفع في وجه كل متحدث عن تعاون مع الاسلاميين في مقاومة الدكتاتورية فتتعلق بما يسمى تطبيق الشريعة ويعنون به الحدود تقريبا وإلا فإن القانون التونسي كما يعرف من له أدنى معرفة به وبالشريعة لا يزال كثير من موادّه بما في ذلك الدستور مستمدا من التراث الفقهي الاسلامي العظيم وعندما يختلف رجال القانون فان الفقه الاسلامي هو مرجعهم الاساس بما في ذلك مجلة الاحوال الشخصية فيما يحل وما يحرم من الأنكحة وفي شروط العقد وفسخه وما يترتب عن ذلك، وكذا فقه المعاملات في جوانب كثيرة منه. والحدود ذاتها وهي محدودة العدد قامت على فكرة استبعادها وليس إيقاعها فالشارع الحكيم لا يطارد الناس حاملا سيفا وسوطا ليجلد ويقطع ويقتل وإنما هو حامل لرحمة يريد بسطها وتوفير شروط انتشارها "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" الانبياء. ومن ذلك المبدأ العظيم "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الامام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة. (رواه البيهقي والترمذي والحاكم عن عائشة مرفوعا). ولذلك أحيطت هذه الحدود القليلة بشروط مشددة يجعل توفرها شبه مستحيل مثل مباشرة عملية الفاحشة بحضور أربع شهود، اللهم إلا أن يكون ذلك في إطار تجارة جنسية حيث يمكن اشهاد مئات الملايين لأن الامر يجري تحت الأضواء مسجلا بالصوت والصورة. وما أظن أحد سينتصب للدفاع عن هذا الصنف من الاتجار بالرقيق الأبيض. وحد السرقة نفسه إذا طبق عليه مبدأ الدرء بالشبهات فسنجد أن غالبية من يسرقون يفعلون ذلك بشبهة ظاهرة هي الفقر والحاجة والجهل، والذين ألجؤوهم الى ذلك هم الأحرى بالعقاب كما ذكر ابن الخطاب عندما جيء له بعامل قد سرق ناقة ونحرها ليأكل منها فلما سأله عما حمله على ذلك وعرف أنه الفقر وتأخر صاحب الابل ومماطلته في دفع الأجرة ترك سبيله ووجه تهديدا صارما لصاحب الابل أنه سيقطع يده إذا تكرر منه ذلك وجيء بالعامل متهما بالسرقة.
وفي كل الأحوال فإن أمة العرب والمسلمين التي شرف الله بلادنا بالانتماء اليها قلعة من قلاع حضارتها عرفت عصور ازدهارها في ظل الشريعة الاسلامية ولم تعجز هذه الشريعة بما عرفت به من مرونة وتشجيع حتى على الاجتهاد الخاطئ إذا حكم” الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله “أجر (رواه البخاري) لم تعجز يوما عن تلبية حاجات أمتنا وحتى عندما أطبق عليها ظلام الجهل والاستبداد كان فقهاء جامع الزيتونة هم الذين حفوا بالوزير خير الدين وقدموا له الأسانيد الشرعية لمشروعه الاصلاحي الرائد، كما كانوا هم الذين أسسوا معه الصادقية وأسسوا الخلدونية ودرّسوا فيهما، كما كانوا هم الذين وضعوا أسس الحركة الوطنية بقيادة شيخ مجتهد من شيوخهم هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي ومن معه من خريجي الصادقية ممن تتلمذوا على يد المشايخ.
ثم إن الشريعة الاسلامية ليست مجرد قانون دولة يمكن أن تأخذ به اليوم وتتركه غدا إنها تعبير عن قيم وفلسفة مجتمع توجه مشاعره ومسالكه في فرحه وحزنه وصحته ومرضه وسره وعلانيته، وما يشك دارس منصف للمجتمع التونسي أن قيم الاسلام وعقائده وشرائعه ونماذجه التاريخية وفي مقدمتهم رسل الله عليهم السلام وبالخصوص خاتمهم وصحابته رضوان الله عليهم الفاروق والصديق وذو النورين وعلي كرم الله وجهه وخديجة وعائشة والزهراء.. والعلماء والأولياء والصالحين ..الخ وليس ماركس ولا لينين وكاسترو -مع الاحترام لهم- هي التي لا تزال أعمق ما في الوجدان التونسي والعامل الرئيس المشكّل لهويته، رغم مرور قرن ونصف من المقاومة الدؤوبة لتلك الهوية، وهو ما يجعل الشريعة المطبقة حقيقة هي تلك الشريعة التي يوقرها المواطن وتوجه سلوكه عندما يغيب شبح البوليس. وعلى سبيل المثال خذ موضوع البكارة أو العذرية والعفة، كم سخّر بورقيبة ودولته والنخبة العلمانية اليسارية المتطرفة التي ورثته من جهود لمحو أثرها من قيم التونسي ومن واقعه؟ ولكن هذه الشريعة التي تجاوزها القانون ونظّم الحياة بمعزل عنها وفي مقاومة لها هل فقدت أثرها الاجتماعي؟ من يقنع الشاب والاسرة التونسيين بالتعامل مع هذه الشريعة بالإهمال؟ بل إني أشك في أن العلمانيين أنفسهم قد أعرضوا صفحا عن هذه القيمة عدا من بلغ التخريب منه العظم والنخاع. إن الشريعة ليست مجرّد بضعة قوانين وعقوبات إنها النظام الشامل الذي لا يزال يحكم حياة المؤمن من الصبح الى المساء في كل أبعادها وحالاتها. وكلما أصابها وهن تحت تأثير هجوم من الدولة ساحق حتى بدا أنها قد اختفت من حياة الناس جملة - كما حصل في عنفوان البورقيبية - وتجدد بأعتى منه في عهد نظام 7/11 لم تلبث أن تنبعث غضة قوية متدفقة تجرف في طريقها كثيرا من العفن، كما هو حاصل هذه الايام مع الانتفاضة الدينية الجدية وسط كل فئات المجتمع التونسي ولا سيما الشباب. لك أن تقول هو المجتمع يدافع عن هويته ولك أن تقول إن الله حافظ دينه.
وإذا كانت هذه الحدود هي عقوبات لجرائم اعتبرها الاسلام كبرى ومهددة لبنيان المجتمع الاخلاقي أو الاقتصادي فوضع لها عقوبات شديدة أحاطها بشروط، توفرها غاية في العسر، بما يعنيه ذلك من عدم حرصه على إيقاعها، بل كل حرصه على درئها، من طريق منع أسبابها، باعتبارها جزء من نظام مجتمع لا يتصور تطبيقها بمعزل عن مناخ ثقافي واجتماعي بكلياته وجزئياته من مثل توفر الرعاية الخلقية والدينية والرعاية الاجتماعية ما يجعل الضامن الأول والأساسي لاحترام القانون ليس الخوف من البوليس وعقوباته وإنما الخوف من الله وانعدام الأسباب أو الشبهات لاقتراف تلك الجرائم. ولأن جملة هذه الشروط غير متوفرة فان المطالبة بتطبيق جزئيات مفصولة عن إطارها العام يخشى أن يشبه العبث والاساءة للشريعة ذاتها، وهو ما صرفنا عن ذلك فلم نجعله جزء من برامجنا وإنما ركزنا عملنا على توفير الشروط الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي من شأنها أن تدرأ تلك الحدود بتجفيف أسبابها. ورأس كل ذلك ومدخله الحرية والعدل. إذ المشكل لا يتمثل في نوع العقوبة الافضل أو الأقل سوء التي ينبغي إيقاعها بـ "المجرم" السجن أم القتل أم الجلد؟ وإنما كيف ندرأ العقوبة أصلا بمنع أسبابها أو التضييق منها. فقد ورد في السيرة أن النبي عليه السلام ولى عمرا خطة القضاء فداوم هذا سنة على الحضور في مجلس القضاء ثم طلب الاستعفاء بسبب أن أحدا لم يأته شاكيا. قارن بين هذه الصورة المثالية - ومهما تصورنا فيها من مبالغة - وبين تراكم النوازل في محاكمنا واستمرار بعضها في ردهات المحاكم لسنوات ومنها قضايا الطلاق الذي بلغت رقما كارثيا (عشرة آلاف حالة طلاق بتّ فيها السنة الماضية وعلى قائمة الانتظار 40000 طلب طلاق) وتصور حال المتقاضين وهم في طور الانتظار لسنوات حتى تبت قضاياهم نهائيا بعد المرور بكل المراحل: ما هو الوضع الشرعي والقانوني والاجتماعي الذي ينطبق عليهم خلال سنوات الانتظار؟ هم على حالة الزوجية المستصحبة؟ أم في حالة طلاق وقد قرروا ذلك أو طرف منهم؟ وما حكم العشرة بينهما خلال الانتظار الطويل؟ كيف يشبعون صيحات الجسد؟ والمقصود بإثارة مثل هذه الاشكالات هو التأكيد أنه مهما اختلفت المعالجات المقدمة سواء من الشريعة الوضعية أو الشريعة ذات الأصول الدينية فمن الوهم الظن أن هناك حلولا مثالية مبرأة من كل عيب مقابل حلول سحرية مطلقة النجاعة. نحن نتحرك في ساحة بالغة التعقيد تختلط المصالح والمفاسد والتقديرات فيها لما هو صحيح وخطإ بصورة نسبية. المشكل-غالبا- ليس في نوع العقوبة وإنما في نوع المجتمع المطبقة فيه، وهذا ما ينبغي أن تشد اليه الأبصار بدل الجدل الفارغ حول كيف نتجنب الصورة الأسوأ للعقاب وهي الصورة الاسلامية وكيف نتمسك بالصورة المثالية البديلة المتمثلة في حشد عشرات الآلاف من الشباب - غالبا- في محتشدات هي من نوع الموت البطيء وليست بحال مدرسة للاصلاح بقدر ما هي مدرسة لتخريج مستويات أعتى من المجرمين. ثم إن عقوبة السجن –مثلا- ليست عقوبة روحية بل هي عقوبة بدنية وذلك ردا على من أدمن النكير على العقوبات البدنية، بل إن من كتب له أن يبتلى بهذه العقوبة يعلم علم اليقين أن أحدا لم يغادر تلك الأوكار التعيسة أعني السجون إلا وقد تعرض لا لعقوبة واحدة هي السجن بل لعدد كبير من العقوبات مثل الامراض المزمنة والجلد المبرح أو المعيق وأحيانا القاتل، ليس تنفيذا لعقوبة قضائية وتحت إشراف قاض وبعدد محدود وكيفيات محدودة - كما هي في المحاكم الاسلامية- وإنما تحت تفويض مطلق لإدارة السجن.وليس ذلك خاصا بالجرائم السياسية وحسب بل حتى في جرائم الحق العام، وهو ما يجعل السجن عقوبة بدنية تصحبها عقوبات بدنية أخرى وعقوبات اجتماعية لأسرة الجاني التي قد تتعرض للدمار الشامل. وهذا لا يعني أن السجون سبيلا للعقاب مسألة مستحدثة بل عرفتها كل الحضارات بما في ذلك الحضارة الاسلامية، إذ أن نظام الحدود جعل ليستبعد ما أمكن ترهيبا وتخويفا من الاقدام على الجريمة فإذا أقدم عليها ولم تتوفر شروط إيقاعها ومنها انتفاء أي شبهة كأن يكون السبب جوعا أو عريا أو طلبا لدواء له أو لمن يعولهم ... إلخ، أحيل الى دائرة أخرى من العقاب هي الاوسع: دائرة التعازير أي الجرائم التي لم تأتي الشريعة لها في نصوص الكتاب والسنة بعقوبة وإنما ترك ذلك لاجتهاد القضاة كالخطية والسجن أو التوبيخ والعفو. ومعظم الجرائم تعود الى التعازير لا الى الحدود. والمقصود من كل ذلك أن أنظمة العقوبات مهما تباينت من ثقافة الى أخرى فانها لم تسقط العقوبات البدنية بالكلية سجنا أو جلدا أو قتلا قصاصا. ورغم ان الثقافة التي قد تكون هي الأوسع انتشارا اليوم هي الثقافة التي تستنكر الحدود وقد تصل الى حد الغاء العقاب جملة بتحميل المجتمع مسؤولية مسالك أفراده، فإن العقوبات البدنية -والسجن منها في الحقيقة- وحتى باستثنائه- لا تزال نظاما متبعا في بلاد كثيرة لا تقتصر على دار الاسلام، فهناك دول كثيرة لا تزال توقع الاعدام عقوبة على جرائم محددة منها عدة ولايات أمريكية، وهناك دول توقع عقوبة الجلد على جرائم محددة مثل سنغافورة. وظلت بعض المدارس البريطانية المحافظة توقع عقوبة جسدية على تلاميذها بسبب بعض المخالفات حسبما تقرره هيأة المدرسة. وليس المهم في ذلك نوع العقاب الأمثل أو الأقل سوء الذي هو أولى من غيره، فالعقوبات كلها سيئة ودرأها ما أمكن هو العلاج الذي ينبغي أن تتجه اليه الأنظار وتتنافس في اكتشافه النظريات وتتضافر على نشره مؤسسات المجتمع الأهلي والسياسي. وهذا هو الذي يشغل الحركة الاسلامية التونسية ممثلة في النهضة. ولذلك هي لم تدرج في برامجها قط موضوع العقوبات، إذ همنا كما فهمنا من ديننا لا أن نوقعها بل بذل أقصى الجهد لدرئها والقضاء على دواعيها مثل الفقر والأميّة والتمزق الأسري والضعف التربوي.ولكن فرق بين عدم المطالبة بتطبيق جزء من الاسلام وبين السماح بتحقيره والتطاول عليه والامعان في الحط منه وسبغ كل أوصاف التوحش والهمجية عليه. ونحن لئن قبلنا الاول فلن نقبل الثاني بل نعتبره تطاولا على دين الامة وحضارتها وشتما بالجملة لمئات الملايين من الاموات والاحياء، وطموحا الى تفكيك هوية الامة لإعادة تركيبها على غير مثال الوحي والنبوة، وهو طموح مجنون وشقي.
إن الحرية قبل الشريعة - كما ذكر الشيخ القرضاوي حفظه الله - بل هي مقدمتها ومقصد عظيم من مقاصدها - فإنما بعث الأنبياء قادة تحرير شامل- وما هي مجرد نظام للعقوبات. على أنه مما تجدر ملاحظته بصدد موضوع الحدود أنه ليس في الاسلام ما يخجل منه مؤمن يؤمن بالكتاب كله وأنه صادر عن حكيم رحيم، فكل ما نزل على قلب محمد ابن عبد الله - نفسي فداه - عدل كله حكمة كله رحمة كله.
وهب أن اختلافا نشب حول فصل أو أكثر في مجلة من المجلات القانونية المتعلقة بقانون الأسرة أو القانون الجزائي أو المالي أو العقاري هل يستحق ذلك أن يوقف التعاون بين أبناء الوطن الواحد ممن طالما جمعتهم ظلمات سجون الطغيان واكتووا بنار بطشه تكميما للأفواه وترهيبا للعقول ونهبا للأرزاق بما جعل تاريخ استقلال هذه الدولة هو تاريخ المحاكمات السياسية ومطاردة الأحرار وترهيب الشعب والعبث بأحلامه.دون تمييز بين اسلامي وعلماني ومومن وملحد. فالدولة هذه لا دين لها بل دينها الوحيد الانفراد بالسلطة فالكافر عندها المستحق للرجم هو الذي لم يسلّم لها، بل تجرأ على معارضتها. أما الايدولوجيات فهي مجرد أثواب ينتقى منها ما يلائم المناسبة: اشتراكية؟ ديمقراطية؟ ليبرالية؟ اسلامية؟ لا يهم. كله ممكن إذا دعت الحاجة. الاستبداد بحد ذاته دين وإيديولوجيا ووثن. ولا يطلب من الآخرين غير إظهار الولاء وفروض الطاعة. أوليس حقا على من اكتووا بنار طاغوت هذه الدولة منذ تخلّقها المتأله ومن شملتهم بركات قمعها أن تجمعهم مقاومتها، لاسيما وهم يشتركون في وحدة الهدف: تخليص البلاد من القمع - وليس مجرد تغيير مواقعه، كما يقول الشهيد باقر الصدر- فضلا عن كونهم مشتركين في كليات المجتمع البديل الذي يرنون اليه بأبصارهم، من حيث قيامه على أساس الاشتراك بالتساوي في حقوق المواطنة واحترام آليات التنظيم الديمقراطي المعروفة، بما تتوفر عليه من قواعد وآليات لحسم كل ما ينشب من خلافات على أساس إعلاء سلطة القانون المعبر عن الارادة العامة للشعب واحترام الحريات العامة والخاصّة ومنها حق الأغلبية أن تحكم وحقّ الأقلية أن تعارض دون احتكار أو إقصاء.
السياسة وتقدير المصالح
9- إن السياسة تدور حول تقديرات للمصالح، وهذه عادة تكون موضع اختلاف مهما اتفقت المرجعيات العقدية. وليس المهم هنا أن تتفق رؤانا أو مرجعياتنا العقدية وإنما المهم أن نتوافق على جملة من الترتيبات لضبط اختلافاتنا عند سقف معين فلا تتخطى معه حدود الوسائل السلمية صوب العنف، سبيلا لفرض أحد الاطراف آراءه واجتهاداته على الآخرين. وتحت هذا السقف نتوافق على قواعد للتوصل الى القرار الذي يخص الشأن العام. وتبقى بعد ذلك آليات التدافع السلمي نشطة فعالة لتأكيد ذلك القرار واستمراره أو مراجعته وتغييره، وهكذا تجري عملية تداول الأفكار والبرامج والهيآت والأشخاص حسب الآليات والمبادئ الضابطة المتفق عليها بين قوى المجتمع.
وحركة النهضة ظلت أبدا ترحب بكل خطوة على هذا الطريق فقبلت بسرور التعاون مع أشد الجماعات خلافا عقديا معها من أجل الدفاع عن أهم مقوم للكيان الانساني ونهوض المجتمعات: الحرية، مثبتة ومؤكدة منذ بيانها التأسيسي1981 دفاعها عن الحقوق والحريات للجميع لا تستثني ولا تميز مواطنا، وأنه ليس أمامها بمقتضى ذلك إذا اختار شعب تونس أشدّ خصومها العقديين الحزب الشيوعي - مثلا- للحكم إلا أن تحترم إرادة الشعب، بينما ظل الكثير متلعثما في التصريح بمثل ذلك – إذا لم يكن قد ذهب بعيدا في صب الزيت على النار- ما دام المحترق خصما عقديا. والمشكل اليوم لا يتمثل بحال من الأحوال في أي نظام للعقوبات أولى - كما ذكرنا- فالشعب كله تحت طائلة العقاب، وإنما في تجميع صفوف شعبنا وحشد قواه لوضع حد لهذا العقاب الجماعي المسلط عليه والذي استمر منذ زهاء نصف قرن. ومن الاسباب الرئيسية في ذلك تمزق النخبة وتشرذمها بسبب مصالح أو حسابات أو منظورات ضيقة أو إغراق في الجدل الأيديولوجي الذي لم يشطر نخبتنا إلى مجرّد معسكرين تستعر بينهما حرب باردة لا تهدأ: علمانيين وإسلاميين وحسب، وإنما داخل كل معسكر حروب لا تضع أوزارها تراشقا بالاتهام بين مدّع صفاء أيديولوجيا أكبر متهما للآخر بالتميع وبين منتسب للاعتدال راميا صاحبه بالتشدّد والتحجّر، وكثيرا ما يكون وراء ذلك خلافات ومطامع شخصية. ولقد سبق لعدد من المفكرين العرب المتابعين للحياة الثقافية التونسية منهم محمد عابد الجابري أن لاحظوا ما يميز الساحة التونسية عن أخواتها العربيات من احتدام أيديولوجي لا يهدأ، وهو ما جعل موضوع الهويّة المحسوم في الساحات الأخرى يفعل فعله في تمزيق هذه الساحة بدل أن تنصبّ الجهود على معالجة مشكل الاستبداد والتصدي له في جبهة واحدة وصف مرصوص. ولربما تشترك الجزائر على نحو ما في التلظي بمشكل جدل الهوية وهو ما أفضى إلى تفجير حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس حالت دونها في وطننا جملة من العوامل منها الجغرافيا ورسوخ تقاليد التمدّن وكذلك تعقّل الإسلاميين. غير أن ذلك لم يمنع أن يكون تاريخ تونس الحديث هو تاريخ التنافي بين الدولة والمجتمع والتنافي داخل مكونات المجتمع ذاته ما حال دونه وفرض قدر من إرادته –في الأقل- على دولته. وإلا فكيف نفهم سير قافلة العالم قدما صوب الديمقراطية بينما بلادنا تسير القهقرى على كل صعيد: في المستوى الاعلامي (أين مثل جريدة الرأي) وفي المستوى النقابي العمالي والطلابي (ما يشبه الانهيار) وفي المستوى السياسي ليس غير الافلاس. ولك أن تقارن بين مستوى الاعلام في الجزائر رغم الحرب الاهلية المستعرة وبين الاعلام المتخشب في بلادنا لتدرك عمق الدرك الذي ردئنا فيه.
نور في آخر النفق
10- لعل وسط هذه الظلمات تتبدى بعض قبسات الفجر من خلال صمود قرابة الألف سجين سياسي في ظروف أوضاع قاتلة. وصمود عدد من مؤسسات المجتمع المدني: مجلس الحريات ولجنة الدفاع عن المساجين. وكذا العودة العارمة الى المساجد دوسا على خطة تجفيف الينابيع وبحثا عن ركن شديد يستمسك به شعب تتقاذفه رياح العولمة السموم. فهل يصاحب ذلك ويدعمه عودة إلى الرّشد من قبل المجتمع السياسي ومن عموم النخبة التونسية تتجاوز به اختلافاتها الضيقة وترمي بكل سهامها صوب عدو واحد هو الدكتاتورية لتحقيق هدف واحد هو الديمقراطية، متخفّفة إلى حدّ كبير من الصراع الأيديولوجي لصالح الصّراع السياسي؟ ولقد أعلنّا ولا نزال أننا مستعدون للحوار والعمل مع الجميع وفي كل المستويات على هذه الاساس، ولكن هل من مجيب؟.
11- لا يفوتنا بهذا الصدد لفت نظر رفاقنا في المعارضة العلمانية المعتدلة الى ما حققته وتحققه معارضات في بلاد عربية واسلامية كثيرة من خطوات على طريق الديمقراطية، طالما حسبنا نحن التونسيين أن تجربتنا الاصلاحية وتطلعاتنا التحررية والديمقراطية متقدمة عليها، وما ذاك إلا بسبب التقاء جناحي المعارضة الاسلامي والعلماني على مطالب ذات طبيعة تأسيسية مشتركة مع احتفاظ كل منهما بخلفياته ومرجعياته الفكرية في حين أضعنا أعمارنا نحن التونسيين جدلا حول حقوق الانسان والديمقراطية والمجتمع المدني وتحرر المرأة هل تتوافق مع الاسلام؟ أم سبيلها الوحيد يمر على جثته وفي الاقل تفكيكه لإعادة تركيبه على أصول تونسية جديدة؟ الاسلاميون يجيبون نعم والعلمانيون لزمن طويل دأب كثير منهم ا على رفض ذلك، ثم هم اليوم تراهم قد خطوا خطوة أخرى فأخذ بعضهم أو أكثرهم لا أدري- ينازعون في الاسلام ذاته بين فهم عقلاني ذي أصول جديدة ينسبون أنفسهم إليه –وهو على كلّ تطور محمود- مقابل الفهم السلفي الذي ينسبون اليه خصومهم الإسلاميين، وقاد ذلك الى تضافر الجهود العلمانية على الطموح المغرور إلى وضع أصول جديدة لفهم نصوص الاسلام على أنقاض الأصول المعروفة التي نشأت الحضارة الاسلامية وتشكلت الامة وفقها. ويهدف هذا المنهج "الأصولي" المقاصدي إلى إسلام بلا شريعة وحتى بلا شعائر: فالصيام حسب أحد كبار الأصوليين التونسيين اللائكيين ليس فرضا وإنما تطوع والصلاة تكفي فيها ركعتان، والربا الممنوع هو ما كانت "الفائدة" عليه أضعافا مضاعفة..الخ. إن النخبة التونسية يبدو كأنها لا تحس بالأرض التي تتحرك تحت أقدامها ومن حولها: لا ترى المد العارم صوب المساجد الذي يكتسح كل الفئات المجتمعية ولا سيما الشباب فتية وفتيات وذلك بعد عشرية كالحة في تونس. فكيف تفسر ذلك وكيف ستتعامل معه؟ والنخبة أيضا يبدو أنها لا تحس بتحرك الامة العارم صوب الاسلام ورموزه في مواجهة زحف العولمة الامريكية المتصهينة التي انحنى أمامها الحكام كما هو الحال في فلسطين والعراق. وقد كشفت كل المناسبات الانتخابية في أي بلد عربي أو إسلامي وحتى في بلاد الأقليات الاسلامية وعيا اسلاميا متصاعدا ومشاركة في التأثير في مجرى الأحداث متزايدة. فهل أحست النخبة التونسية العلمانية بذلك وتصرفت بمقتضاه كما تصرفت النخبة العلمانية اليمنية الاشتراكية والناصرية التي طالما مثلت التشدد العقدي الماركسي ومع ذلك تطورت وراجعت مسارها حتى انتهى بها الأمر إلى التحالف مع الاسلاميين في الانتخابات الأخيرة مع ما بينهما من دماء أو النخبة الفلسطينية ممثلة بكل الفصائل العلمانية التي أقبلت على الحوار والتنسيق مع نظيرتها الإسلامية. وفي الجوار الجزائري تجارب للعمل المشترك وصلت الى حد تشكيل الحكومات الائتلافية. ولا حاجة للحديث عن تجارب التعاون والتنسيق في تركيا وبنغلاديش وإندونيسيا ..الخ.
وأعجب ما في الأمر أن أهم الأدبيات التي استندت اليها تجارب التعاون والتحالف وتكوين الحكومات المشتركة أو النضال المشترك بين الاسلاميين والعلمانيين في بلاد كثيرة، قد أنتجتها "النهضة" التونسية- وعلى سبيل المثال كل أدبياتنا تترجم أولا بأول الى التركية وتعتبر مادة التكوين الاساسي للحركة الاسلامية هناك-، بينما هذه في بلادها موصومة حتى من أطراف في المعارضة بالتطرف مع أنها أول حركة اسلامية نادت بتعددية لا تقصي أحدا، والمضي الى النهاية مع العملية الانتخابية من دون قيود. ومع ذلك فانه بقدر ما نمّت أدبيات النهضة في الوسط الاسلامي ثقافة وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان حتى عرفت بذلك في الاوساط الأكاديمية المشتغلة بالاسلاميات بقدر ما ازدادت تحفظات النخبة التونسية إزاءها- وهو مبعث ألم غير قليل في نفوس أوساط النهضويين واستغراب الملاحظين ولا سيما بين أصدقائنا من معتدلة العلمانيين العرب مثل الدكتور خيرالدين حسيب الذي طالما كرر التأكيد "أن الوضع التونسي حرم العرب من مشاهدة نموذج متميز من الديمقراطية الاسلامية كل العرب محتاجون اليه". حز في نفوسنا أن قرأنا لأصدقاء عرفناهم وعرفونا عن قرب مثل الأستاذ أحمد نجيب الشابي يبررون رفضهم التعاون معنا بأنهم على خلافنا يؤمنون بذاتية للإنسان مستقلة!!. مع أن الدراسة الموضوعية لخطاب النهضة تشهد على تماسكه وتطوره في اتجاه مزيد من تأصيل الديمقراطية والمشاركة؟ وهل كان يعلم ذلك يوم كنا صبيحة الهجوم على الجماهيرية نسير في الصف الأول ممسكا أحدنا في يد الآخر يقوي بعضنا بعضا في مواجهة زبانية القمع؟، هل كان ممسكا بعضد من لا يومن بذاتية الانسان؟ أم أن الامر غير ذلك وإنما ما كشفت عنه دراسة نشرها على صفحات الانترنت الحقوقي المعروف الاستاذ عبد الرؤوف العيادي لمرافعة الاستاذ أحمد نجيب التي دافع فيها عن استراتيجيته في رفض التعاون أو التحالف مع النهضة، حيث أضاف الى جانب المسألة الثقافية التي أفضنا في الحديث عنها تحفظا سياسيا يتلخص في أن هذا الخيار يمثل خطا أحمر في نظر السلطة وفي نظر القوى الدولية. وإذا صح هذا الفهم - ونتمنى أن نكون مخطئين فيه - وقبل من طرف المعارضة التونسية الجادة - ونحن نعتبر التجمع الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة الديموقراطيين الاشتراكيين الأصلية منها - تكون المعارضة هذه قد صادرت مستقبلها، لأن مستقبل تونس ليس في تواصل الواقع القائم ولو بتغييرات طفيفة يسمح بها النظام القائم وإنما مستقبلها في تغيير هذا الواقع عبر تغيير موازين القوة فيه من أجل فرض الخيار الديمقراطي سواء أكان ذلك عبر القبول الاضطراري به من طرف السلطة القائمة - وهي لا تبدي حتى الآن أي مؤشر لذلك - أم كان عبر نظام بديل. هذا عن الخطوط الحمراء الداخلية أما الخطوط الحمراء الخارجية فهي ليست ثابتة وإنما هي غالبا متوهمة. دليل ذلك الترحيب الغربي باسلاميي تركيا والترحيب بنتائج الانتخابات المغربية والبحرينية والبنغالية والباكستانية بينما لا أحد في الغرب رحب بنتائج الانتخابات التونسية. إن في الادارة الغربية تيارات استئصالية ولا شك إزاء الحركة الاسلامية يتزعمها التحالف الإرهابي الدولي بين الليكوديين في الادارة الامريكية وتيار المسيحية الصهيونية وهو تحالف بدأت أركانه تهتزّ مع ما منيت به مخططاته من فشل ذريع في العراق. الفشل الذي يحرص عليه كل العالم تقريبا.
إن في الإدارات الغربية بما في ذلك الأمريكية تيارات أخرى لها نفوذ ومنظرون تحرص على الاستقرار في العالم الإسلامي ومحاصرة تيارات الإرهاب، ولا ترى الى ذلك سبيلا غير التعامل مع تيارات الاعتدال الاسلامي باعتباره التيار الشعبي الاقوى، وتشجيع التحوّل الديموقراطي حتى وإن أتى بالإسلاميين وأطاح بحكومات فاسدة فرّخت الإرهاب وصدرته الى الغرب. فلا سبيل الى تحول ديمقراطي وتحقيق استقرار وتنمية جادة دون السعي الى ادماج الاسلاميين في العملية الديمقراطية في حدود معينة (انظر كتبات جون اسبوزيتو ونوح فيلدمان وغيرهما). وحتى على افتراض وجود خطوط غربية حمراء في التعامل مع الاسلاميين فليس الغرب إلها لا يحصل في ملكه إلا ما يريد. إن له مصالح يمكن أن تلتقي مرة وتتصادم أخرى مع مصالحنا والمسألة مسألة موازين قوة وليست مننا وعطايا وإلا فإن الغرب ليس منزعجا الى الحد الذي لا يطاق من الوضع التونسي ما دام الاستقرار قائما ومصالحه ماضية، فما الذي يحمله على مغامرة ودفع تكاليف دعم انتصاب زيد العلماني مكان عمرو العلماني القائم بالواجب؟ وإذن سواء تعلق الأمر بالداخل أم الخارج لا مستقبل إلا في التغيير، ولا تغيير جاد إلا عبر تغيير موازين القوة، ولا يبدو لذلك من سبيل دون تجاوز نخبة المعارضة في نطاق المجتمع السياسي والمجتمع المدني مرحلة طالت وتعفنت: مرحلة التشرذم والحسابات القصيرة والبحث عن المختلف المفرق بدل البحث عن المشترك الجامع وهو كثير لمن تفكر وتعقل، وإذن لأدرك أنه لا سبيل لتغيير حتى في نطاق هذا النظام يفرض عليه الاعتراف بالشعب واحترام إرادته كما يفرض على الخارج الاعتراف بوجود معارضة تملأ العين من دون تجاوز واقع التشرذم والحسابات الضيقة نحو جبهة للمعارضة نحن حريصون على أن نكون جزء منها وليس قيادتها، لأنه لا طموح لنا في الحكم في وضع التجزئة والموازين الدولية القائمة. كل طموحنا الاسهام في الوصول بوطننا الحبيب الى وضع معقول يأمن فيه كل المواطنين، ويشاركون في نموه.
والجدير بالملاحظة أن تونس الحبيبة لن تبقى جزيرة معزولة في عالم يمضي قدما، نحو الاسلام والحرية. وحركة التاريخ لا ترتهن عادة لزيد ولا لعمرو. هناك مهمة تاريخية مطروحة اليوم يتهيأ لها الشعب وتتهيأ لها المنطقة: خلاصتها الانتقال من حكم الفرد الى حكم الشعب - ولو مع تدرج جاد وأقدار من الارتباك - وذلك من أجل إرساء شرعية لأنظمة فاقدة لها واستعادة الكرامة للمواطن وللشعب وللإسلام مصدرا لتلك الشرعية المبحوث عنها والتي تتهيأ أسبابها. وليس أمام قوى المعارضة الجادة إلا أن تكون في مستوى المهمة - إن كانت لا تزال بها بقية من حياة وتطلع نحو المستقبل - فتندرج جادة وبصف موحد في حركة التاريخ للإسهام في دفن مرحلة تحتظر واستقبال مولود يوشك أن يهل صارخا، أو تحكم على نفسها بالهامشية والاندثار. ولأن الظواهر الاجتماعية إذا توفرت اسباب ولادتها لم تتوقف على زيد ولا عمرو فستضع القدرة الراية في أيد وقوى جديدة تستحقها مصداقا لقوله تعالى "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" سورة محمد آية 38؟
__________________________________
* مضت على كتابة النسخة الاولى لهذه التأملات حوالي سنة كنت خلالها أتابع تطور الاحداث في البلاد. ولم أطمئن الى استوائها على حال يسمح بنشر هذه الافكار الواردة. غير أنه حرصا على تغذية الحوار في ساحة يتضاءل الاهتمام بها وسط سيل دافق من الاحداث الكبرى رأيت أن أدلي بدلوي مع المدلين إسهاما في تحريك السواكن وحتى لا يأسن المورد، فترجّحت عندي مصلحة نشر المؤجل مع شيء من التحديث، فإن كان فيه خير ونفع فهو المبتغى ولو كان مجرد تنشيط الحوار حول قضية المعارضة والعلاقات بينها سبيلا لتغيير منشود قد تكون أسبابه في الافق. وأنا شاكر لكل ذي إسهام في النقد والنصح والتطوير. والله ولي التوفيق
(المصدر: موقع نهضة.نت بتاريخ 11 سبتمبر 2003)