في الذكرى الثامنة عشرة لوفاة الشيخ عبد الرحمان خليف (توفي رحمه الله تعالى يوم 19 فيفري 2006) ينشر "منظار" للمرة الأولى - وبشكل حصري - النص الكامل للرد الذي كان قد بعث به الشيخ عبد الرحمان خليف رحمه الله إلى صحيفة "المستقبل" لسان حركة الديمقراطيين الاشتراكيين على ما ورد في مقال للسيد زياد كريشان نُشر في عددها 211 الصادر يوم 5 فيفري 1988 (أي بعد ثلاثة أشهر فقط من انقلاب بن علي على بورقيبة) تحت عنوان: "في الدولة الدينية" لكن الصحيفة أحجمت عن نشره أو حتى مجرد الإشارة إليه.
في الدولة الدينية
بقلم الشيخ عبد الرحمن خليف\عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس
نشرت صحيفة المستقبل لسان حركة الديمقراطيين الاشتراكيين مقالا للسيد زياد كريشان في عددها 211 بتاريخ يوم الجمعة 5 فيفري 1988 تحت عنوان: في الدولة الدينية .
وهذه بعض الملاحظات على مقاله المذكور:
ميلاد الدولة الإسلامية :
يرى حضرة السيد زياد كريشان أن لا وجود للدولة الإسلامية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا نص رأيه حرفيا ( و حتى هجرة الرسول إلى يثرب بعد قضاءه 13 سنة بمكة لم تتوج ببناء الدولة الإسلامية – كما يروّج لذلك دعاة السلفية الأصولية- إذ التنظيمات الجديدة التي أحدثتها النواة الأولى من المهاجرين و الأنصار و المضمّنة أساسا في الصحيفة التي أعدت في بداية الفترة المدنية لتنظيم العلاقات ( السياسية) هناك لم تنشئ إطلاقا دولة ، بل كانت امتدادا - و إن بشيء من التعقيد- للتنظيمات القبلية السائدة آن ذاك ، حتى أن الرسول كان لا يسمح للمعتنقين الجدد أو القدامى للدين الإسلامي بالعيش خارج الأطر القبلية ) .
و اكتفى السيد كريشان بدليل اقتنَعَ به لنفي بناء الدولة الإسلامية في حياة الرسول صلى الله عليه و سلم ، و هذا الدليل هو عبارة وردت في كتاب أدب الدين و الدنيا للماوردي و نصُّها (وحتى الأعاجم كان الرسول يضمهم إلى القبائل العربية ليصبحوا موالي ) .
من هنا نرى السيد كريشان يؤكد أن الوضع – برمته بعد الهجرة إلى المدينة المنورة – ما كان إلا امتدادا للتنظيمات القبلية السائدة آنذاك . و يستضيء للدلالة على صحة رأيه بضمّ الرسول صلى الله عليه و سلم مَن أسلموا مِن الأعاجم إلى القبائل العربية .
هذا هو رأي السيد كريشان و دلائله .
و إني ألفت انتباه السيد كريشان إلى أن قضية الموالي لها جهتان :
- الجهة الأولى : هي أن ضمّ الأعاجم للعرب في الانتساب قصد به أساسا ضبط الأوضاع المدنية ، ليتميز بها الأفراد ، و يتعارفوا بينهم ، و ما هي إلا عملية تقتضيها حياة أيّ مجتمع منظّم ، حتى تضبط المسؤوليات و يصبح لكل فرد نسبة معينة ، على حدّ ما يعرف في تونس باللقب العائلي .
- الجهة الثانية : هي أن الأعاجم قبل الإسلام ما كان العرب ينظرون إليهم إلا نظرة احتقار ، ولغة العرب و مفاخرهم يدلان على ذلك .
أما افتخار العرب في الجاهلية و تعاليهم على من سواهم فهو السِمة البارزة في حياتهم، بل كانت كل قبيلة تفتخر على أختها ، و من الإغراق في هذا الهوس قول عمرو بن كلثوم :
ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا °°°° ونحن البحر نملؤه سفينا
حتى قال :
إذا بلغ الوليد لنا فطاما °°°° تخرّ له الجبابرُ ساجدينا
و أمّا لغة العرب فمن مفرداتها عبارة ( عَجَم ) و هي تستعمل عندهم للدلالة على كل البشر الذين ليسوا عربا .
فلم يكن ضمّ مسلمي الأعاجم للعرب تكريسا للتنظيم القبلي و لكنه تكريم للأعاجم، و إيقاظ للمعاني الإنسانية في نفوس العرب .
و ينبغي أن تعلم - يا سيد كريشان- أن الإسلام قوّض النظام القبلي الجاهلي فحوّله من غرور طائش إلى اعتدال ثاقب رصين .
و قوانين شريعة الإسلام التي برزت في فجر الدولة الرسولية أشهر من الشمس ، و لعلك في حاجة إلى معرفة نماذج منها لتدرك أن دولة الرسول صلى الله عليه و سلم لم تكن امتدادا للنظام القبلي ، و لكنها نظام مغاير ذو خصائص متميزة سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم عسكرية أم ثقافية .
لقد كرّم الإسلام العبيد الأعاجم منهم و العرب فلم يلحقهم بالسادة فقط ، بل جعلهم في مستوى أرفع منهم في كثير من الأحيان :
1 – لما فتح الله على رسوله مكة، أمر صلى الله عليه و سلم بلالا الحبشي أن يصعد على ظَهر الكعبة الشريفة و يؤذن للظُهر ، فقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ؟ و قال الحكم بن أبي العاص : إن هذا لحدث عظيم ، عبد يصيح على الكعبة .
2 – لما عيَّر أبو ذر بلالاً رضي الله عنه بأمه قائلاً له : يا ابن السوداء ..قال له صلى الله عليه وسلم غاضباً منتصراً للحق : " يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ " ( البخاري 29 مسلم 3139)
و قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ،مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ" ( أحمد عن أبي هريرة 8381 )
3 – روى ابن فتحون في ذيل الاستيعاب أنه صلى الله عليه و سلم عيّن باذان الفيروزي واليا على اليمن ، وهو أعجمي .
4 – و روى ابن حجر في الإصابة أن فاطمة بنت قيس القرشية خطبها اثنان من أشراف العرب فاستشارت فيهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فاختار لها غيرهما و أشار عليها أن تتزوج أسامة بن زيد وهو مولى .
5 – و روى البخاري أن أبا حذيفة زوّج الوليد بن عقبة هندا بنت أخيه ، و الوليد مولى ، و هند من المهاجرات، وفي رواية لغير البخاري أن بعض الناس قد أنكر على أبي حذيفة صنيعه وقال: أنكحْت ابنة أخيك ( مولى )؟ فقال : ما أعلم إلا أن الوليد خير منها .
6 – روى في الإصابة أن سالما مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء وفيهم أبو بكر و عمر .( جاء في البخاري - 6640 - عن نَافِع أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قال كان سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ )
هذه نماذج محدودة من التحوّلات تترجم عن أنها لم تكن امتدادا للنظم القبلية بحال .
و إني أسأل السيد كريشان : أكان أهل الجاهلية يقدّرون مراتب البشر بمدى استقامتهم ونقاوة سلوكهم ، أم بحماقات الاغترار بالدماء و الثراء؟ هل كرّس الإسلام المحسوبية لتولّي مهام الأمة ، أو قال نبي الإسلام: ( من استعمل رجلا من عصابة ، و فيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله و رسوله و المؤمنين ) ( رواه الحاكم في المستدرك من رواية ابن عباس: 7023 ) هل أبقى على العصبية و مناداة أصحابها بقولهم : يا لَبَني فلان ؟ أو قال صلى الله عليه و سلم ( دعوها فإنها منتنة) ( البخاري 4525 و مسلم 4682 ) هل أبقى مواخير الزنا التي كانت ترفع عليها الرايات في الجاهلية ؟هل أبقى الخمر مباحة للناس؟ هل أبقى على أكل الجيف من ميتة و منخنقة ... الخ ؟ هل أبقى على أكل أموال الناس بالباطل من مقامرة أو ربا أو رشوة ؟ هل أبقى ألوان الخداع التي كانت تحدث في المعاملات الجاهلية ؟
وفرارا من طول قائمة التحولات التي ظهرت في الدولة الرسولية لك أن تقرأ ما سجل الفقهاء في البيوع و ملحقاتها فإنك ستعدّ العشرات و العشرات من أنواع خداع المعاملات التي أبطلها الإسلام ، و ما استمد الفقهاء أحكامها المنبثة في كتبهم إلا من الكتاب و السنة ، فإذا اطلعْت عليها بَهَرَتك قيَمُها الحضارية الخالدة .
ذاك عصر و هذا عصر
و يتساءل السيد كريشان عما إذا كان من الممكن إطلاق أحكام طبّقت في مجتمع معين على كل المجتمعات البشرية .
إن من يسمع هذا الكلام يظن أنه صواب إذا لم يكن له إلمام بطبيعة الشريعة الإسلامية .
تعال يا سيد كريشان أفهمك أن الشريعة الإسلامية وضعت قواعد الحكم و التشريع ، و تركت وسائل تطبيقها تتفاعل مع الحياة ، و إني أوضح لك هذه الحقيقة ببعض الأمثلة :
1 – مبدأ الشورى في الحكم : هذا المبدأ من قواعد الحكم الإسلامي ، فالله أمر عباده بذلك ، فكان على ولي أمر المسلمين أن لا يترك الشورى و إلا كان عاصيا لله .هذه قاعدة ثابتة على مدى الحياة . أما كيف تكون الشورى فهذا أمر متروك لظروف الأمة زمانا و مكانا ، فقد يتوجه بالاستشارة إلى ذوي الرأي الثاقب أو إلى ذوي الاختصاص أو إليهما معا ، و قد يتألف من أهل الشورى مجلس واحد أو أكثر من مجلس ، و قد ينتخب هذا أو ذاك لسنتين أو أكثر أو أقل . وقد تتعدّل دوائر انتخابهما من حين إلى آخر .
و هكذا تثبت القاعدة في الحكم و تتطور وسائل التطبيق ،
أفرأيت يا سيد كريشان كيف أن الحكم الذي طبق في مجتمع يسوغ تطبيقه في مجتمعات أخرى مهما يختلف الزمان و المكان .
2 – مثال آخر : قاعدة العدل ، هي من القواعد الثابتة في الإسلام ،لكن وسائل الوصول إلى تحقيق العدل متروكة للتفاعل مع الزمان ، ففي القضاء مثلا قد تتطور الوسائل لإثبات شخصيات المتهمين بتحليل بصماتهم و مراجعة الكمبيوتر للتعرف على ماضيهم في ميدان الإجرام إلى آخر ما يمكن أن يحقق العدل في القضاء ، إن كل تلك الوسائل يقبلها الإسلام و لا يتنافى معها .
و الإسلام – يا سيد كريشان – دعا إلى تحقيق العدل بصورة تجاوزت آفاق كل الحضارات ، بل إن جميعها تتهاوى دون الوصول إلى قمة العدل في الإسلام .
أنبئني – يا سيد كريشان – في أي قانون لأي أمة متحضرة يؤمر القاضي بأن يكون عادلا في نظرات عينيه للخصوم ؟ و إلا فاستمع إلى ما قاله في هذا الشأن مؤسس الدولة الإسلامية قال صلى الله عليه و سلم ( من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته و مقعده و مجلسه ) ( رواه الدارقطني و البيهقي – 3284 - و الطبراني- 622 - عن أم سلمة )
و فوق ما تقدم فإن نظرة الإسلام العظيم إلى العدل أوسع مدًى من مجال القضاء بين المتنازعين ، استمع يا سيد كريشان إلى مؤسس التنظيم الخاص بالعلاقات الأسرية حين يقول صلى الله عليه و سلم ( إن الله يحب أن تعدلوا بين أبناءكم حتى في القُبَل ) ( أخرجه السيوطي في الجامع الصغير- 2651 - عن النعمان بن بشير)
3 – إن الإسلام حرم أكل أموال الناس بالباطل ، إذ يقول الله { (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ( النساء ) هذه قاعدة ثابتة ثبوت الحياة ، و إذا تطورت وسائل أكل المال بغير حق في أي مجتمع فذلك مندرج تحت هذه الحقيقة الثابتة ، فقد يحدث ذلك بالاستحواذ على المال بصك بدون رصيد ، و قد يحدث بإبرام صفقة بوثائق مزورة ، و قد يحدث بارتداء لباس خاص بأعوان مؤسسة لها الحق في استخلاص بعض الأموال من حرفائها فيتقمص فرد ما شخصية أحد الأعوان التابعين للمؤسسة و يرتدي لباسه ، فيخادع بذلك من يدفعون له المال ، و قد يحدث بأي لون من ألوان المخادعة أو المقامرة ، وما أكثرها من ألوان .
4 – السخرية من الناس حرمها الإسلام فقد قال الله تعالى { (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } ( الحجرات) وهذه أيضا قاعدة ثابتة فإذا تطورت وسائل السخرية فهي مندرجة تحت هذه الحقيقة ، سواء أكانت السخرية بمحاكاة بعض الحركات لشخص بعينه يقوم بها ممثل على خشبة المسرح أو كانت صورة كاريكاتورية يقصد بها الازدراء بشخص معين أو بأي طريقة تنال من كرامة الإنسان .
أرأيت يا سيد كريشان كيف إن تعاليم الإسلام كانت في وضع محكم بحيث تتجاوز حدود الزمان و المكان . حقا إن القرآن ما أنزله إلا { الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ( الفرقان -6 )
و عليك – إذا شئت – أن تستعرض تعاليم الإسلام فإنك ستجدها في صورة قواعد عامة ، بحيث يندرج تحتها ما لا يكاد يحصى من الجزئيات ، و قلما تُتناول الجزئيات، و كل ذلك لحكمة عزيزة ، وانظر أسباب ذلك في كتاب ( الإسلام عقيدة و شريعة ) للشيخ شلتوت (1 ).
ثم لعلك يا سيد كريشان تعرف طريقة صياغة الدساتير أنها تضع القواعد العامة فقط ، و اقرأ القرآن إذا شئت بطرح الخلفيات المستقاة من مكسيم رودنسون و أضرابه فإنك ستجد القرآن أعظم كتاب تسعد به البشرية .
و مع كل ما تقدم فإن طريقة التشريع الإسلامي في وضع القواعد العامة هي الطريقة العلمية الصحيحة ، و هي التي أكدت سلامتها أحدث النظريات ، و إليك ما قيل في هذه القضية من طريق غير إسلامي ، لأنني رأيتك تكبر آراء المفكرين غير الإسلاميين و غير السلفيين بالخصوص :
يقول كريسي موريسون : ( إن الحقائق ثابتة لا تتغير ، و إنما الذي يتغير هو الصورة فقط ، ذلك أن نزعة الطعام لم تتطور ، و إنما الذي تطور هو صورة الطعام ، و إن نزعة اتخاذ المساكن لم تتطور ، و إنما الذي تطور هو صور البيوت ، و إن نزعة اللباس لم تتطور و إنما الذي تطور هو صور اللباس ، و إن نزعة القتال و الصراع فطرة بشرية و إنما الذي تغير هو صورة القتال )
و قال ( إن التطور إنما هو في الصور و الهيئات لا في الحقائق ، لأن الحقائق ثابتة لا تتغير و إن القول بأنه [ لا شيء ثابت على الإطلاق ] نظرية زائفة ) ( من كتاب سقوط العلمانية لأنور الجندي ) (2 ).
فهذه النظرية تؤكد أن لا حقيقة للتطور المطلق ، وهي التي نتمسك بها تمسكا مستمدا من الدين الإسلامي و مدعوما بالعقل الإنساني السليم .
و هكذا شأن القرآن و السنة في تنظيم حياة الأمة في ميدان الأسرة و العلاقات الاجتماعية ، وعلاقات الأمة بغيرها من الأمم سلما و حربا ؛ و أعتقد أن السيد كريشان لم يطلع عليها طيلة حياته كما يتبين من مقاله .
فإن استعصى عليه إدراك ما في القرآن العظيم فعليه أن يقرأ أطروحة الدكتوراه للعالم المسلم محمد حميد الله فقد وضعها بالفرنسية بعنوان : Documents sur la diplomatie musulmane – Paris;G.P.Maisonneuve, 1935 . و درس فيها وثائق العهد النبوي و عهد الخلفاء الراشدين .(3)
و إن تعذر ذلك على السيد كريشان فليرجع إلى كتاب ( نشأة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ) تأليف عون الشريف قاسم ( مطبعة نهضة مصر سنة 1981 )و إن شاء فليضمم إلى ما تقدم كتاب ( تخريج الدلالات ) تأليف علي الخزاعي بتحقيق الدكتور إحسان عباس (4 )....
معنى الحكم الوارد في القرآن
إن السيد كريشان فسّر [ الحُكمَ ] الوارد في القرآن تفسيرا لا وجود له إلا في ذهن حضرته ، فلا هو مستمد من اللغة و لا من العرف ، و لا من استعمال أهل النقل و لا أهل العقل . فجاء تفسيره مناقضا للنصوص الصريحة و للأحداث المستفيض أمرها في التاريخ . إذ يرى السيد كريشان أن كلمة حُكْم في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم لا تعني الدولة و- من باب أولى – منهاجا خاصا في تسييرها ، بل تعني كلمة حكم قاعدة أخلاقية دينية اشتقاقا من حكمة (هكذا !) على الأفراد و المجتمع احترامها .
اسمع – يا سيد كريشان – ما يقول الله في هذه القضية { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء- 58) أفهذا مجرد حكمة كما ترى ؟ أو هو قاعدة لسياسة الحكم بين الناس ؟
و اسمع ما يقول سبحانه لنبينا { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } ( المائدة - 49 ) و اسمع ما قال له أيضا { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ( النساء -65 ) فأي شيء هو الشجار الذي يحمل أصحابه على تحكيمه ؟ أفترى أن مراد القرآن أن يسمعوا منه حكمة وكفى؟
إن أقضية الرسول صلى الله عليه و سلم في هذا الشأن أشهر من أن يجهلها صاحب الزاد الزهيد من الثقافة الإسلامية.
لا أدري ما إذا كان السيد كريشان محيط – حقيقةً - بأبعاد ما يقول ، لكن ما يحملني على الجزم بأنه غير ملمّ برأيه هو استحالة الجمع بين ملاحظاته في هذه القضية فهو من جهة يرى أن لا وجود لمفهوم كلمة [ حكم ] في عهد الرسول إلا معنى الحكمة ، و من جهة أخرى يعترف بالمعنى الحقيقي للحكم عندما تساءل عما إذا كان من الممكن إطلاق أحكام طبقت في مجتمع معين على كل المجتمعات البشرية !
و إني لست أعجب من اقتناع السيد كريشان بما قال ، لأنه قد استقى معلوماته عن الإسلام ممن أحاطوا بالإسلام علما أمثال ( مكسيم رودنسون ) كما جاء في مقاله بجريدة المستقبل لكنني أعجب من مجازفات السيد كريشان حيث اندفع في موضوع خطير كهذا بدون تأمل و لا تثبت حتى كاشفنا بأغرب العجائب ، و إن ما طرحه في ذلك المقال يذكّر حتما بقول الشاعر :
[ هذا كلام له خبيء °°° معناه ليس لنا عقول ]
تعدد الشرائع
و يتساءل السيد كريشان عن تعدّد الشرائع و يقول إن علماء الإسلام عللوا ذلك بأمرين :
1 – اختلاف مستويات المجتمعات ، مما يستدعي نسخ الأحكام و يرد قائلا: أفلا ينطبق هذا على التطورات التي حدثت بين القرن السابع و القرن العشرين .
2 – دعوى التحريف للشرائع السابقة ،
ثم يقول: ( و اعتراضنا على هذا كالتالي : الكل يعلم أن الله قد تعهد بحفظ كتابه من التحريف والتشويه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ، ثم قال : ( أفلم يكن بإمكان الله تعالى حفظ أول رسالة أنزلها للبشر من التلف و التحريف ؟ إذا كان الأمر مجرد تحريف قصد تصحيحه ، ثم ألم تحْوِ رسالة عيسى أحكاما ناسخة لشريعة موسى عليه السلام { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) } ( آل عمران )
ثم يعود إلى الحديث عن تناسخ الشرائع المبني على تطور المجتمعات ، و يكرر اعتراضه ذاهبا إلى أن التطور الحاصل بين القرن السابع و القرن العشرين ينبغي أن يكون مدعاة لتغيير الأحكام الإسلامية .
اسمع يا سيد كريشان :
1 – الرسالات السابقة جاءت كل واحدة منها إلى فئة معيّنة من الناس ، فقد قال موسى { إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) } (يونس ) و قال عيسى { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } ( الصف-6 ) و كل من أرسل قبلهما ما أرسل إلا إلى قومه خاصة ففي القرآن { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } ( نوح -1 ) ، { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } (العنكبوت - 16 ) و هكذا قال كل من هود و صالح و شعيب ... الخ .
أما رسالة نبيي و نبيك يا سيد كريشان فهي عامة و ليست قومية ، فقد قال سبحانه : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ( الأعراف- 158) و لما كانت رسالته عامّة لزم أن تكون أحكامها تتناسب مع مختلف القوميات بما في ذلك التخفيف بطرح الثقل الذي كان مفروضا من الله على بعض الأمم السابقة كما قال الله { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ( الأعراف - 157 ) .
ثم لعلك لاحظت يا سيد كريشان ما سبق من قول موسى لقومه { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) } (يونس )، و من قول موسى و غيره من الأنبياء يتبين أن الإسلام – في معناه العام – هو دين جميع الرسل دون استثناء فإبراهيم دعا لنفسه و لابنه قائلا{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } ( البقرة- 128 ) و يوسف قال { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) } (يوسف ) و قال سبحانه في قرى قوم لوط { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) } (الذاريات ) و الإسلام كان جميع الأنبياء يحرصون على توريثه لأبنائهم فقد قال يعقوب لبنيه {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) } ( البقرة ) .
هكذا تبين قول الله سبحانه { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } ( آل عمران -19) إذ أن كل الرسالات متفقة في عقيدة التوحيد ، و في تعظيم شأن الله و في الالتزام باتباع هداه ، و لكنها تتفاوت في بعض الأحكام طبقا لما يعلم الله من شؤون خلقه . فكانت كل رسالة سابقة على رسالة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قد أدت مهمة معينة لطائفة محدودة من البشر في زمن كانت فيه الشعوب متباعدة المَواطن ، لا يتصل بعضها ببعض إلا في نطاق محدود جدا بالنظر إلى ما حدث بعد ظهور الرسالة المحمدية .
أما رسالة محمد صلى الله عليه و سلم فكانت أوسع مدى ، و لهذا كانت أحكامها – غالبا – ما جاءت في صورة قواعد يندرج تحتها ما لا يحصى من الجزئيات المستحدثة في جميع أطوار الزمان كما تبيّن ذلك في فقرة [ ذاك عصر و هذا عصر ] المتقدمة .
و أما حفظ الله للقرآن العظيم بالذات فلأن الله – طبقا لما يعلم ممّا سَيَطرأ على حياة عباده – قد وفّر له من أسباب الصيانة ما لم يوفّر لغيره . و بعض ذلك يتبين في ما يلي :
1 – أنه أنزله عذبا سائغا ميسّر الحفظ ، و ليس للكتب الأخرى مزية الحفظ لا في القديم و لا في الحديث . و يكفي أن تعلم يا سيد كريشان أن الأتراك اليوم – و القرآن لم يكن بلسانهم – في كل عام يتخرج آلاف من شبابهم يحفظونه حفظا جيدا للغاية ، و لهم الآن عشرات الآلاف من المدارس المخصصة لتحفيظ القرآن ، و هكذا الأمر في باكستان و في أفغانستان والسينيغال ... الخ .
2 – إن العصر الذي ختمت فيه الرسالات قد تفتقت فيه القرائح و تحركت الدوافع لنسخ القرآن ، في شرق بلاد المسلمين و غربها حتى لم يخْل بيْت من مختلف الأحجام للمصحف الشريف ، إلى أن ظهرت الطباعة فانتشر نصه السليم المحفوظ في كافة قارات الدنيا ، و جلّت عظمة الله الذي يعلم كل شيء قبل أن يكون .
3 – إني لا أبالغ إذا أفدتك يا سيد كريشان أن كل كلمة من القرآن إذا تميزت عن أخواتها في الرسم أو النطق قد وقع ضبطها في مؤلفات خاصة مع التعريف بالداعي لذلك ، و هذا تجده في ما لا يحصى من المؤلفات الخاصة بهذه الناحية ، و إنني أعني ما أقول حين أشرت إلى ما لا يحصى من المؤلفات الخاصة برسم القرآن و بعلم أدائه تلاوة و قراءاته ، لعلك قد سمعت بما كان يسمّى عندنا قبل الاستقلال بشهادة العالمية في القراءات .
لا أذهب بك إلى مصر و لا إلى المغرب الأقصى ، و إنما عليك أن تراجع القوائم الطويلة للمؤلفات المتعلقة بهذه العلوم في المكتبة الوطنية بتونس ، فإنك بعد اطلاعك على أسماء الكتب فقط ، تعلم أن هذا الكتاب كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و لقد أنجز الله وعده لما قال { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ( الحِجْر ) يا سيد كريشان !
أفَترى أيّ كتاب آخر قد حُفظ ببعض ما حُفظ به القرآن ؟ إنك تستطيع ان ترى ما طرأ على التوراة و الإنجيل من تحاريف عجيبة ، و أنصحك أن تطلع على كتاب [ إظهار الحق ] تأليف الشيخ رحمة الله الهندي , فقد ناظر فيه قسّا إنجليزيا بحضور نائب الملك البريطاني أيام احتلال الهند و وقع تسجيل كل ما دار بينهما من المحاضر في كتاب [ إظهار الحق ] ، لو اطلعت عليه لرأيت ما في التوراة و الأناجيل الأربعة من ركام عجيب من التحريف والتزييف (5 ).
و فوق كل ما تقدم فإن أهل الكتاب ليس لديهم سند متصل بما لديهم الآن من التوراة والإنجيل أو ما يسمونه بالعهد القديم و العهد الجديد . ثم لا يخفى أنهما بمنزلة مجموعتين من الروايات والسير ، أفيُعْقل أنهما من عند الله ، و هما يصفان الخالق جل شأنه بأحطّ الأوصاف ؟ واقرأ إذا شئت آخر الإصحاح الثاني و الثلاثين من سفر التكوين من التوراة ، فإنك تجد هذا الإصحاح يذكر أن الله تصارع مع يعقوب ليلة كاملة و لم يقدر عليه ؟ و لكنه عند الفجر قال ليعقوب أطلقني فقد طلع الفجر ، فقال يعقوب لا أطلقك حتى تباركني ، فباركه ...؟
سبحان الله ! مغلوب ويعطي البركة لمن غلبه ، وغالب قوي يحتاج إلى بركة مغلوب ضعيف ...؟
أما العهد الجديد فهو أعجب لأنه يثبت الولد لله و يؤكد أن ولده صلب ... الخ
أرأيت – يا سيد كريشان – إلى أي حد بلغ التحريف بما أنزل الله قبل القرآن من كتاب ، أما القرآن فقد حفظ بحق كما وعد بذلك الذي { عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } ( الأنعام - 59).
و بهذه اللفتات الوجيزة قد تبينت الحقيقة بصورة لا ينكرها إلا من يتكلف إنكار الواقع المحسوس.
عظمة الدولة الإسلامية
يقول السيد كريشان : ( ولاعتبارات تاريخية ليس هذا المجال لشرحها و تفصيلها كان الانتصار للإسلام ، فتوسعت رقعته الجغرافية )
لا – يا سيد كريشان- التاريخ إن أردت به الأحداث فإنك لم تتعرض لها ، لا إجمالا و لا تفصيلا ، وإن أردت به الزمان ، فالزمان عَرَضٌ ظرفي يصاحب الوقائع و لا يتدخل فيها ، فليست الأيام التي يقع فيها امتحان الطالب هي السبب في إخفاقه أو نجاحه ، و إنما السبب هو مدى استعداده للنجاح بمختلف المؤهلات .
أما توسع رقعة الإسلام و إشراق حضارته فقد كان نتيجة لنبل تعاليمه ، و صِدق المسلمين يومئذ مع الله ، فلما نصروا دين الله في أنفسهم نصرهم الله على كل من ناصبهم العداء. وساعد على ذلك كون تعاليمه لا تمنع أي تطور لا يتنافى مع ما فيه من الثوابت المقررة فيه .إن هذه الميزة العظيمة للإسلام هي التي جعلت الشعوب على اختلاف ألسنتها و ألوانها تستظل بلوائه على الصورة التي أجبرت السيد كريشان على أن يقول حرفيا ( فتوسعت رقعته الجغرافية في سنوات قليلة بصفة مهولة فانتقلت من مجرد قرية في الصحراء العربية – المدينة – إلى إمبراطورية مترامية الأطراف ) !
و السيد كريشان يعترف في مقاله بوجود الدولة الإسلامية إذ يقول حرفيا( فالتطور التاريخي هو الذي فرض ميلاد الدولة الإسلامية ) !
لعله لم يدر كيف نفى وجود ما يسمى بالدولة الإسلامية ثم لم يستطع إلا أن يثبته ، و يبدو من ملاحقة أفكاره أنه لا يرتاح – في مجمل تصوره الشخصي – إلا إذا لم يكن الفضل في ظهور الدولة الإسلامية لمن رسم حدودها ، و وضع أسسها ، و متّن قواعدها ، فهو بهذا التصور الغريب كمن يقول لشخص أنت موجود حقا ، و لكنك لست ابن أبيك ، فيسأله لماذا ؟ فيجيبه لأنه لما فارق الحياة تركك صغيرا فكبرت بعده .
و أما قوله ( الدولة الإسلامية كمؤسسة تاريخية لا علاقة لها بأوامر و تعليمات السماء ) فأقول لسيادته أن السماء ليس لها أوامر و لا تعليمات ، و إنما هي كالأرض كل منهما خلق من خلق الله الذي { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } (القصص ) و ما الحكم إلا لله القائل {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } ( يوسف - 40 )
قــتــل و قــتــل
رأى السيد كريشان أن العلاقة بين الإسلام والشرك لن تكون سوى الحرب و القتال .
و هذه أكبر من أخواتها !
اسمع – يا سيد كريشان – ما قال ربنا سبحانه لنبينا صلى الله عليه و سلم { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} ( التوبة)
أفيكون إبلاغ المشرك لمأمنه تحريضا على قتله ؟ إن كل آيات الجهاد الواردة في كتاب الله تتنافى مع دعواك – يا سيد كريشان – ألم يقل الله { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) } ( البقرة) تأمّل في هذه الحقائق الثلاث ، إن القتال المشروع خاص بمن يقاتلون المسلمين ، وأنه مقدّر بقدر ما يدفع الضرر ، فلا يجاوزه إلى حد الاعتداء ، فيكون المعتدون مبغوضين من الله و القتال الواقع في هذا النطاق واجب يثاب عليه المسلم لأنه سبيل موصل إلى رضوان الله ، و يعاقب على تركه ، لأن التخاذل في دفع الاعتداء جبانة و استخذاء .
و أزيدك من الآيات البينات قول الله تعالى { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ( البقرة- 194 ) لاحظ المثلية في قوله { بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } !
و أزيدك قوله تعالى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } ( التوبة - 36 ) إن السطحيين المتطفلين لا يستوعبون من هذه الآية معنى { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ } وهي الفقرة التي لها وزنها العظيم في تشريع القتال الإسلامي .
و مع ما تقدم فإن تجهيز الأمة بأعتى ما يمكن من السلاح أمر واجب ، بغية احترام أعداء المسلمين للمسلمين ، إذ يقول سبحانه { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ( الأنفال 60 ) بعد قوله { (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } .
فإذا عاد الأعداء إلى الحق ، و مالوا إلى مسالمتنا بشواهد واضحة فقد أوجب الله مسالمتهم ، فقال { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ( الأنفال -61 ) .
إن تعاليم الإسلام الخاصة بالجهاد و بمعاملة الأسرى هي من أنبل ما عرفت البشرية ، فراجعها في مصادرها ، لا في ما يكتبه بعض المستشرقين إما بدافع الحقد و إما بعدم الإلمام الكافي بقضايا الإسلام .
الاسـتـرقـاق
إن بقاء الاسترقاق في بعض الأوساط الإسلامية إلى الزمن الذي أجبرهم فيه الاستعمار على تركه ، ليس الذنب فيه لتعاليم الإسلام ، و إنما الذنب لبعض المنتسبين إلى الإسلام ، لأنه فتح الكثير الكثير من أبواب تحرير العبيد . بل لقد أوجب الكثير من تلك الأبواب ، و الشأن في هذه القضية كشأن من ينتسبون إلى الإسلام اليوم وهم يعاقرون الخمر ، و يتعاطون الكثير من المناكر التي تتنافى مع الإسلام ، أفيعدّ هذا من فساد تعاليم الإسلام ؟
ثم يعود السيد كريشان إلى الدعوة ( لإعادة النظر في موروثاتها التي أضفت عليها قرون الجهل قداسة ، فقد يثبت الحوار العلمي الموضوعي النزيه أنها كانت وهمية ).
أما أن تعاليم الإسلام قد أضفت عليها قرون الجهل قداسة فهذه لوثة يريد السيد كريشان أن يلحقها بتلك التعاليم العظيمة ، وهي تعاليم قدسها خالق الكون حين قال { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ( الإسراء- 9) و قال { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } ( آل عمران) .
و أما أن الحوار العلمي هو الطريق لإثبات الحق ، فهذا هو مبتغى كل عاقل ، و لقد كاشفت سيادته في هذا التعقيب على ما كتب بما يدفع جميع الأوهام التي تتنافى مع العلم والموضوعية و النزاهة .
الــمـقـدس و الــمــدني
هذا عنوان وضعه في كلمته و أتبعه بقوله ( إن الخطر الأساسي المتخفي وراء الدعوة السلفية الأصولية و علاوة على تبشيرها بنمط مجتمع كلياني تمامي تنتفي منه الحياة ، و تقام فيه محاكم التفتيش في كل مدينة و في كل حي و كل بيت بله و كل غرفة . إن الخطر الأساسي هو نفي هذه الحركة للتاريخ و للعقل أي للإنسان ، و تقديم الحياة كلحظات يتنازعها المقدس والمدني )
ما هذا الخلط يا سيد كريشان ؟
إن الإسلام أشرف و أرحم من أن يوصف بالسعي إلى تنظيم مجتمع تقام فيه محاكم التفتيش , ما هذا القلب للحقائق يا سيد كريشان ؟ إن الإسلام هو الذي سحقته محاكم التفتيش ! ألم تحرق محاكم التفتيش بالأندلس آلاف المسلمين بالنار حرقا و هم أحياء ؟ ألم تسجن بقايا المسلمين في كهوف تحت الأرض ، مسلسلين قياما ، وهم مشدودون إلى جدران الكهوف ؟ حتى اكتشفت أخيرا مصالح البحث عن الآثار هياكلهم العظمية مسلسلة، بعضها وجدوه قائما ، و بعضها تناثرت أجزاؤه أسفل السلاسل (6 ) .
اسمع – يا سيد كريشان – تعاليم الإسلام التي أوجبت الرفق و الرحمة ، لقد روى أبو عبد الله الحاكم في المستدرك ( 7574) عن عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه و سلم قال (ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز و جل عنها يوم القيامة قيل : يا رسول الله و ما حقها ؟ قال : حقها أن يذبحها فيأكلها و لا يقطع رأسها فيرمي به ) ، والحيوانات منها المؤذي و منها الوديع ، و لقد أمر الإسلام بأن يرفق بجميعها ، حتى عند قتل المؤذي ، اسمع قول الرسول في هذه الجزئية (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) ( رواه مسلم في صحيحه عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ- 3615 ) ؛ أما دماء البشر فهي أشد صيانة في تعاليم الإسلام ، لقد قال صلى الله عليه و سلم (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ ) ( رواه الترمذي 1318 - عن أبى سعيد وأبى هريرة معا) هذا حكم قتل المؤمن ، أما النفس الإنسانية بصفة عامة فقد قال فيها القرآن { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } ( الأنعام - 151) .
ما أسعد مجتمعنا – يا سيد كريشان – إذا رأيته تسوده هذه الرحمة الإسلامية ، فإنك لا بد أن تهتف مرحى لهذه الحداثة التي ينادي بها السلفيون ، و إنك عندئذ تدرك أنها عودة إلى التعاليم التي جاء بها من أرسله الله رحمة للعالمين .
فأين تعاليم الإسلام الرحيمة من محاكم التفتيش التي تحاول سيادتك أن تلحق عارها بدعوة الإسلاميين إلى التمسك بها في الإسلام من قيم خالدة مهما تطور بالإنسانية الزمانُ .و لا أدري يا سيد كريشان ما إذا كان هذا منك بحثا رصينا أو نفثة حاقدة أو خلفية مدفوعة ، ليتني أعرف السبب حتى يزول مني العجب !
متطلبات الحداثة
يلخص السيد كريشان بآخر مقاله ، في ثلاث عشرة نقطة :
1 – أن ببلدنا صراعا.
2 – أنه بين العقلانيين و كل أصحاب الكهنوت ( هكذا ! ).
3 – أن الملتزمين بالإسلام المقرر في الكتاب و السنة هم الموصوفون في رأيه الخاص بأنهم (أصحاب الكهنوت ).
4 – أن كل من لم يلتزم بما في الكتاب و السنة هو عقلاني .
5 – أن العقلانية تعني أساسا أن يستعيد المجتمع مقاليد الفعل ( كذا ) و أن لا تستمد السلطة منه إلا من خلال مؤسساته .
6 – أن لا يشرع الغائب للشاهد .
7 – أن لا يشرع الله للإنسان ....؟
8 – أن يتخلص الإنسان من هيمنة السماء ( كذا ) أو أن يعيد بناء علاقاته معها على أساس الندّ والمساواة ...؟
9 – أن العقلانية تعني إعادة الاعتبار للحياة في مجتمع سيطرت فيه الخرافة .
10 – أن العقلانية تتنافى مع رب مطلق النفوذ ، لا رادّ لكلماته و لا معدّل لحكمه .
11 – أن العقلانية أولا و أخيرا تعني تحرر الدولة والمجتمع من قيود الإيديولوجيات الدينية الغيبية .
12 – و المضحك - آخر الأمر - أن يقول ( إن هذا لا يعني إطلاقا معاداة الدين كقيم روحية) .
13 – ثم يختم كلمته بأنه : لا بد من تجديد هذا الدين و لا بد له من ثورة ثقافية تعيد له تاريخه ، و لا بد لنا نحن جميعا – يقصد السادة العلمانيين – من أن نعيد علاقاتنا معه .
و تعقيبا على الفقرات السابقة أقول لسيادته :
1 و 2 و 3 : حقيقة إن الصراعات في تونس تتمثل بين فريقين : فريق متحلل من الصدق في عرض القضايا ، فيصف علماء الإسلام بأنهم أصحاب كهنوت ، وبأنهم دعاة إلى محاكم التفتيش، كأن محاكم التفتيش قد أقامها الإسلام ، و فريق ثان تأكد من مسيرة التاريخ – في تونس وغيرها – أن المسلمين ما ضعف شأنهم ، و ما تهاوَوْا في مسيرة الحضارة إلا بالتحول تدريجيا عن الكثير من تعاليم الإسلام .
4 – و أما كون من لم يلتزم بتعاليم الإسلام شخص عقلاني فهذا أمر يبعث على التأسف لما أصاب بعض العقول التي علم أصحابها عن الإسلام شيئا ، وغابت عنهم أشياء و أشياء .
إن كل عاقل يدرك أن الحكم عن الشيء فرع من تصوره ، و أسأل الذين يعنيهم السيد كريشان ممن لم يلتزموا بتعاليم الإسلام ، إني أسألهم : هل أحاطوا بالإسلام علما ؟ أو أنهم استقوا معلوماتهم عن الإسلام من أمثال مكسيم رودنسون !
5 – إن من تعاليم الإسلام أن السلطة تكون مقاليدها بيد المجتمع الذي يستشار ولا يكره، ويلتزم بطاعة من يتولى الأمر في نطاق العدالة التامة .
كما أن من تعاليمه أن المجتمع موكول إليه مراقبة التطبيق لروح العدالة التامة .
6 و 7 : و أما كون الله غائبا فهذا جحود لنتائج العقل ، فقد فتح القرآن للعقل آفاق التدبّر و التفكر بعرضه لعجائب ما أبدع الحكيم العليم في هذا الكون ، و قيامه ببقائه { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } ( فاطر - 41) ألم يقل الله سبحانه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } ( ق ) ، إنه حاضر غير غائب ، يا سيد كريشان !
8- أما هيمنة السماء فلا وجود لها إلا في بعض الأوهام وما السماء إلا خلق من خلق الله ، و أما هيمنة الخالق فإن التصدي لمنافستها على أساس المساواة فإن هذه الدعوى تكفي أن تكون إعلانا واضحا عن مستوى عقلية العَلمانيين .
9 – إن العلمانية ما هي إلا نزعة أوربية ظهرت لمقاومة الأوهام و الخرافات ، لكن المجتمع الذي تتمثل فيه تعاليم الإسلام بحق هو مجتمع بعيد عن الخرافات ، و إذا كانت إحدى طبقاته تتأثر بالخرافات فما ذلك إلا من جهلها بالإسلام .
10 – إننا نحن الملتزمين بتعاليم الإسلام نعتز بأن نعلن إيماننا برب مطلق النفوذ ، لأننا أدركنا هيمنته على الوجود ، كما علمنا أن ما اعتُبر من مفاخر الاكتشافات في القرن العشرين من أن السماء تتمدّد باتساع متواصل ، هذا المكتشف الرائع الحديث قد أخبرنا به في آية كريمة حين قال { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) } ( الذاريات ) و أن كل ما في الكون إذا نظرنا إليه يُعرّفنا بالرب العظيم ، حتى قال من نظر إلى العوالم بعقل غير مريض و لا مُصاب :
هذي العوالمُ لفظ أنت معناه °°° كلٌ يقول إذا اسْتنطقته : اللهُ !
11 – لقد تبين أن العقلانية بذلك التصور غير مستقيمة بحال ، ما دام لهذا الكون خالق عظيم .
12 – وهذه النقطة تعني الاعتراف بحق الله من جانب و إنكاره من جانب !
13 – اسمع – يا سيد كريشان – أن " لا بُدّاتك "الثلاث عجيبة :
أما الأولى فإن تعاليم الإسلام لها ثوابت ورد بها النص عن الله و رسوله ، و لها أيضا مستجدات تطبيقية تتفاعل مع الزمان كما عرّفتك .
و ما لابد الثانية فهي تقليد للسلف الكريم السيد ماوتسي تونغ حين قام بالثورة الثقافية الخالدة ..!
وأما لابد الثالثة فقد تبين أن علاقتك بالإسلام قد كنت أعدتها منذ حين فلا حاجة إلى هذه اللابد!
أسأل الله لي الهداية والتوفيق، ولك إذا شئت.
________________________________________________________
( 1 ) لتحميل الكتاب :
http://www.cheikhelif.net/site/livres_scientifiques/chaltout.pdf
(2 ) لتحميل الكتاب : http://www.cheikhelif.net/site/livres_scientifiques/sqwt-alalmaneh.pdf
( 3 ) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله . دار الإرشاد. بيروت 1969 .
مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ؛ جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادى - طبعة القاهرة 1956م
(4 ) لتحميل الكتاب: http://www.cheikhelif.net/site/livres_scientifiques/takhrij-dalalet.pdf
(5) لتحميل الكتاب: http://www.cheikhelif.net/site/livres_scientifiques/ezhar.pdf
(6 ) لمزيد الإفادة راجع كتاب " مذابح و جرائم محاكم التفتيش في الأندلس" : http://www.cheikhelif.net/site/livres_scientifiques/mahakm_taftich.pdf