search

وثيقة: رسالة علي العريض بعد انقضاء 1000 يوم من اعتقاله يفند فيها التهم الموجهة إليه

"تحية طيبة وبعد،

I. المحاكمات عن بعد لا توفر الضّمانات والشروط الكافية لمحاكمة عادلة

لقد حضرت كمتهم جلستين بقصر العدالة بتونس، وفي الجلسة الثالثة المنعقدة في 22 مارس 2025 تم إعلامي، وأنا في طريقي إليها أمام باب قاعة بالسجن المدني، بأن الجلسة ستكون عن بعد.

وبعد استيعاب المفاجأة والاستفسار عمّن يشرف على هذه القاعة وكيف تدار العملية، اعتذرت عن الدخول وطلبت فرصة للتشاور مع لسان الدفاع عني.

وبعد تجميع ما أمكن لي من معطيات حول المحاكمة عن بعد وظروفها، تبين أنها لا توفر المحاكمة العادلة من حيث ظروفها وشروطها.

ثم حضرت عن بعد جلسة 25 مارس 2025 لمزيد التثبت، وطلبت الكلمة لإبلاغ صوتي ورأيي والمطالبة بمحاكمة أكون فيها حاضرا مباشرة، ووعدني الرئيس بتمكيني من الكلمة، ولكنه أنهى الجلسة دون السماح لي بالكلام.

ولاحظت بنفسي خلال الجلسة كيف أن صوت الرئيس يصلنا أحيانا غير واضح، أي لا نستطيع فرز الكلمات، كما أن عددا من مرافعات الأساتذة المحامين لم نسمع منها شيئا، عدى أصوات غير مفهومة ومبهمة.

كما لاحظت أن طلب الكلمة في قاعة السجن لا يُرى أحيانا أو لا يُنتبه إليه من قبل الرئيس أو أعضاء المحكمة.

هذا إضافة إلى الانقطاعات المحتملة للصوت في الاتجاهين أو في اتجاه واحد.

ومن ناحية أخرى، فإن الاستنطاق حسب فهمي ليس مضمون كلام فقط، وإلا لاكْتُفِيَ بطلب تقرير كتابي أو إجابة كتابية عن الأسئلة، في حين أن الاستنطاق يشمل أيضا النظر المباشر إلى المُسْتَنْطَق وتفاعلاته مع الأسئلة، وكلها قرائن إضافية تساعد القضاة على تحرّي الحقيقة وتكوين رأيهم في الغرض وعلى الترجيح.

ورغم طلب الأساتذة المدافعين عني وعن غيري بأن تكون المحاكمة مباشرة وفي قاعة يجتمع فيها الجميع، وتكون القاعة كلها تحت نظر وإشراف الرئيس ومساعديه كامل الوقت، ويكون فيها الصوت مسموعا وواضحا ومفهوما وتكون الرؤية واضحة أيضا، فإن المحكمة تمسّكت بأن تُعقد الجلسة القادمة بحضور غير مباشر بالنسبة للموقوفين، وأنا منهم.

وبهذا القرار، وجدت نفسي مرة أخرى أمام خيارين أحلاهما مرّ:

- إما الغياب عن الجلسة بسبب التحفظات الكثيرة التي أشرت إليها وغيرها مما أورده لسان الدفاع، ولاقتناعي بتأثير هذه التحفظات على سير المحاكمة ونتائجها، وبغيابي تضيع عني وعن الأساتذة المحامين فرصة الدفاع عن نفسي وإنارة المحكمة في قضية تستحق تسليط الضوء على مختلف جوانبها وسياقاتها ومفاصلها،

- وإما أن أقبل بفرصة منقوصة ومحفوفة بما أشرت إليه أعلاه، وأحضر الجلسة أو الجلسات غير المباشرة.

ومع قناعتي بأن المحكمة قادرة على تنظيم محاكمة حضورية مباشرة في قصر العدالة أو في أي مكان آخر تتوفر فيه الشروط والضمانات الكافية، إذا كان السبب أمنيا كما تردد، فقد قررت الحضور في الجلسة القادمة غير المباشرة، ليوم الثلاثاء 22 أفريل 2025، تماشيا مع منطق أن فرصة منقوصة أفضل من "لا فرصة"، مع تسجيل تحفظاتي وعدم اطمئناني.

II. في جوهر القضية

أقف أمامكم اليوم لأحاكم عن سياسات اتخذتها أو شاركت في اتخاذها بصفتي وزير داخلية الجمهورية التونسية في 2012 ورئيس حكومتها في سنة 2013.

وتتعلق هذه السياسات أساسا بمنهج التعاطي مع تيار أنصار الشريعة، فيما يخص مشمولات وزارة الداخلية، إذ الأمر يهم وزارات كثيرة، منها وزارة التربية، وزارة التعليم العالي، وزارة الشؤون الدينية، وزارة العدل، وزارة الدفاع، وغيرها من مؤسسات الدولة كرئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وقطاعات أخرى مثل الإعلام والمجتمع المدني إلخ…

ذلك أن التعاطي مع الظواهر الفكرية والدينية يكون بوسائل سلمية في مجتمع ديمقراطي، ومواجهة ظواهر العنف والإرهاب والظواهر الإجرامية تكون بالأمن والقضاء.

وفي ملف الحال يوجد البعدان.

ويجدر التذكير، ونحن على مسافة 13 سنة من تلك المرحلة، أن نذكر بسياقاتها ومعطيات أساسية تساعد على تقييم تلك السياسات وفهمها، سواء تلك التي اتخذت في 2012 و2013 أو حتى تلك التي اتخذت بعدها.

إن محاكمة تلك المرحلة بمعطيات اليوم يمكن أن يقع في الخطأ، فنحن اليوم نعلم أشياء كثيرة بحكم مسافة الزمن التي تفصلنا عن تلك المرحلة، ولم نكن نعلمها آنذاك، وإنما اكتسبناها تدريجيا بالسياسات التي اتخذناها.

‌أ. أهم سمات تلك المرحلة:

1. الانفلات والتسيب إلى حد الفوضى الذي شهدته البلاد، والذي استمر سنوات 2011 و2012 و2013، وإلى حد ما 2014 وما بعدها. وأهم مظاهره هي الاحتجاجات والاعتصامات وقطع الطرق والمظاهرات وسائر أنواع التحركات والمطالب عالية السقف.

2. ضعف مؤسسات الدولة نظرا لضعف شرعيتها وصيغتها المؤقتة: (رئاسة دولة مؤقتة، حكومة مؤقتة، هيئة معيّنة للمساعدة على الحوار بين الأطراف) ومجتمع مدني وحزبي في حالة صعود كمّي ونوعي، إلى حد الفوضوية أحيانا.

مجتمع "تَعَلَّمَ" سلطة وأحزابا ومنظمات ومواطنين كيف يعيش ويعمل في ظل الاستبداد، ويحتاج إلى وقت ليتعَلَّم كيف ينتظم ويقوم بدوره حقوقا وواجبات في ظل الحرية والديمقراطية الناشئة.

3. مزاج شعبي في حالة انفلات (défoulement)، فيه خلط بين الحرية والفوضى، وتنتشر فيه قناعة عميقة بأن الدولة بأجهزتها كانت دائما ظالمة ومستبدة، والمواطن كان دائما مظلوما وضحية.

ومن هنا، فكل احتكاك مع المواطن أو منع من شيء أو إيقاف لشخص، عادة ما ينظر إليه مسبقا على أنه مظلمة من السلطة الجديدة التي ستكون امتدادا لتلك القديمة التي ثار الشعب على استبدادها.

ومثل هذا "المزاج" والمناخ شكّل ضغطا كبيرا على عمل المؤسسة الأمنية وعلى عمل القضاء أيضا ولفترة طويلة نسبيا.

4. لم تكن المعطيات عن السلفية الجديدة (بعد الثورة) متوفرة، والجميع كان في حالة مخاض وصراع وتشكل متغير. ومن ذلك التيار السلفي، كما سيعرف لاحقا، والذي تبين بعد سنوات أنه كان يعيش نزاعات وانشقاقات وتغيرات، ليتشكل جزء منه بعد ذلك في تنظيم أنصار الشريعة، ويبعث بعد مدة جناحا عسكريا يجمع السلاح ويتدرب على استعماله، ويعد نفسه للانقضاض على السلطة.

وكل هذا لم يتم تبيّنه إلا بعد مرور الوقت والسنوات وتركيز جهود الاستعلام والبحث، وكان نتيجة الإيقافات والاعترافات ومختلف الجهود الأمنية.

وكان لسنتي 2012 و2013، التي كنت فيهما وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة، الدور الحاسم في اكتشاف الخطط والتنظيمات وحجز الوسائل والأسلحة وإفشال المخطط المعدّ.

5. حالة الضعف التي كانت تعيشها المؤسسة الأمنية، بما تعرضت له من أضرار بالغة ماديا ومعنويا:

- بحرق كثير من مقراتها، وإتلاف محتوياتها، وضياع جزء من سلاحها، وإتلاف كثير من وسائل نقلها وعملها.

- بما عاشته من حالة ارتباك وتصدع داخلها، حتى كادت بعض أجزائها أن تخرج عن السيطرة وعن القيادة خلال 2011 وبداية 2012.

ولم يتم تجاوز هذا الوضع الصعب والخطير إلا في بداية 2012.

- بما سبّبه تغول النقابات الأمنية التي فرضت وجودها القانوني في بداية سنة 2011، في سياق الضغط الرهيب على وزير الداخلية آنذاك، وهو وضع جديد لم تستعد له الوزارة، ولا كانت للأمنيين به خبرة أو تجربة، ممّا جعل هذه النقابات أو بعضها يُربك عمل الوزارة طوال سنوات، ويتم توظيفها من قبل أحزاب أو منظمات أو وسائل إعلام موجهة.

- أما الضرر المعنوي العميق، فهو تحميل المؤسسة الأمنية (وحزب التجمع) مسؤولية كل آلام الماضي والاستبداد، ومن ثمة فقد تم استهداف التجمع ومقراته، والمؤسسة الأمنية ومقراتها، كما تم تحميل المؤسسة ككل مسؤولية قتل شهداء الثورة وجرح عدد كبير من المتظاهرين. وقد خرج الكثيرون في السنوات الأولى للثورة ينادون بحل المؤسسة أصلا.

وهذا الوضع، إضافة إلى إيقاف عدد من الأمنيين، أدى إلى عزوف الكثير من الأعوان والإطارات عن العمل، وإلى الغياب وتغيير مقرات سكنهم خوفا من تعرضهم وعائلاتهم إلى الانتقام، كما أدى إلى تفشي ظاهرة انسحاب الأمنيين كلما حصل احتكاك بينهم وبين محتجين خوفا من العواقب.

كانت المؤسسة الأمنية في أمس الحاجة إلى جهة تدافع عنها، وتعترف لها بدورها الوطني، وترعى معنوياتها، وتصلح علاقتها مع المجتمع، وتغير صورتها فيه.

ولم يتقدم، مع الأسف، أحد لذلك خوفا من رد فعل الرأي العام تجاه من يتصدى لهكذا مهمة، رغم حاجة البلاد والمؤسسة الماسّة لذلك.

وقد توليت هذه المهمة الشاقّة حال اطلاعي على الواقع، ونالني ما نالني...

ولكننا تجاوزنا كل ذلك، وتمكنت المؤسسة من العودة السريعة للعمل والرسالة الجديدة، التي هي أمن جمهوري رسالته تحقيق أمن الوطن والمواطن مع الحياد إزاء الحياة السياسية والنقابية والفنية والحقوقية.

ولم تنقَضِ سنة 2012 إلا وكانت المؤسسة الأمنية في المرتبة الثانية بعد الجيش الوطني من حيث نسبة ثقة الشعب فيها، بعد أن كانت في آخر الترتيب سنة 2011، حسب بارومتر ينشر دوريا.

‌ب. أولويات المرحلة أمنيا:

بعد انتخابات أكتوبر 2011، سعت حركة النهضة الحاصلة على الرتبة الأولى، وحزب المؤتمر الحاصل على الرتبة الثانية، وحزب التكتل الحاصل على الرتبة الثالثة، في تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة وانتقالية، على أساس "الدستور الصغير" ريثما يقع إعداد دستور جديد من قبل المجلس الوطني التأسيسي.

تحملت في هذه الحكومة حقيبة وزارة الداخلية من 23 ديسمبر 2011 إلى حدود منتصف مارس 2013.

تسلمت الإشراف على الوزارة من سلفي السيد الحبيب الصيد، الذي عُيِّن في نفس الحكومة وزيرا مستشارا لدى رئيس الحكومة مكلّفا بمتابعة الوضع الأمني أي متابعة نشاط وزارة الداخلية التي أُشرف عليها.

وبعد الاطلاع على الأوضاع الأمنية والتقارير في الغرض، وبعد الاستماع إلى المديرين العامين وعدد من إطارات الوزارة، وبالتشاور مع الجميع، حددنا الأولويات الأمنية كالتالي (لا تتعلق هذه الأولويات بالنصف الآخر من عمل الوزارة الذي يشمل الولاة والمعتمدين والجهات والبلديات وسائر الإدارات والمجالات غير الأمنية):

أولا: العمل على تحقيق تهدئة عامة بالبلاد، وخفض منسوب التوتر والاحتجاج دون التصادم، والاستعانة بالحوار مع المحتجين ومواكبتهم، والاعتماد على مشاركة الوزارات الأخرى المعنية بمختلف مواضيع الاحتجاج.

ثانيا: التعجيل بتجهيز المؤسسة الأمنية بالوسائل والمعدات الضرورية لأداء رسالتها الوطنية، نظرا لافتقارها الشديد لذلك، كما بينته أعلاه.

ثالثا: رعاية المؤسسة الأمنية التي تمر بظروف معنوية ومادية صعبة جدا، رعاية إطاراتها وأعوانها والدفاع عنها، وتوضيح دورها ورسالتها الوطنية لدى الرأي العام ومختلف هياكل الدولة. وفي الوقت نفسه، العمل على تحقيق جملة من الإصلاحات العميقة ضمن برنامج أُعد للغرض.

ويندرج في هذا الإطار بلورة مفهوم الأمن الجمهوري، ونشره والتشبع به من قبل الأمنيين، ونشره أيضا في هياكل الدولة وفي الرأي العام، وتجاوز الصورة المختزلة في مصطلح “أمن بن علي” المشحونة يومها بالإدانة والعداء.

ويندرج فيها أيضا التمييز بين التجاوزات والجرائم المنسوبة لبعض الأمنيين، التي يختص بالبت فيها القضاء، وبين جوهر المؤسسة الأمنية ككل والتي هي مؤسسة وطنية تحتاج إلى الرعاية والتطوير الدائم، وتحديد رسالتها، وتطوير قدراتها وأدائها وعلاقاتها بالمجتمع بصفة عامة، وتفنيد الأحكام العامة التي تدين بالجملة وتحمّل المسؤوليات بالجملة، وتطالب حتى بحل المؤسسة تأثرا بأصداء تقع في بلدان أخرى. والحقيقة أن هذه المهمة (الثالثة) كانت، حتمية وحاسمة حينما تصديت لها في سنة 2012 ومنذ البداية، ويشهد على ذلك تدخلاتي في الندوات الصحفية الكثيرة، وفي وسائل الإعلام، وفي بلاغات الوزارة، وفي المجلس التأسيسي، وفي مجلس الوزراء، وسائر هياكل الدولة، وفي لقاءاتي الكثيفة مع جموع الأمنيين للتوعية ورفع المعنويات وتوضيح السبيل.

ويندرج في هذا الإطار أيضا إعادة تفعيل العمل بالقانون عدد 69 المتعلق بالتعاطي مع التجمهر، والذي تم تعليقه منذ بداية 2011.

ويندرج في هذا الإطار أيضًا توحيد المؤسسة الأمنية تحت قيادة واحدة، تتمثل في المدير العام للأمن الوطني من جهة، والمدير العام آمر الحرس الوطني بالنسبة لسلك الحرس الوطني، وذلك تحت إشراف الوزير على الجهتين معًا. وقد جاء هذا التوحيد استجابة لما تم تسجيله من تصرف البعض باستقلالية عن القيادة الأمنية. وبناءً على توصية من سلفي السيد الحبيب الصيد، قمتُ، بعد أيام قليلة من توليّ الوزارة في بداية سنة 2012، باتخاذ الإجراءات اللازمة لتدارك هذا الوضع، مما مكّن من استعادة وحدة المؤسسة الأمنية ووحدة قيادتها، وتجاوز الآثار الخطيرة التي خلفتها تلك الوضعية.

رابعا: التيقظ لما كان يظهر من احتمال مرجح للصدام مع تيار أنصار الشريعة، الذي تكررت تجاوزاته وتطاوله على الدولة وعلى المؤسسة الأمنية وحتى على المجتمع، والذي عبر صراحة في خطابات وتصريحات، وفي أكثر من مناسبة، عن رفضه تسوية وضعيته القانونية، ورفضه لقوانين الدولة ومؤسساتها، ولجأ إلى ممارسات عنيفة في أكثر من مناسبة. كان هذا في سنة 2011 قبلي وفي بداية سنة 2012 وأنا وزير الداخلية.

‌ج. ظاهرة السلفية الجهادية في تونس

لا شك أن "السلفية الجهادية" _ ومن خصائصها الغلوّ في الدين واستسهال اللجوء إلى العنف والعمل المسلح _ ظاهرة قديمة في تونس وكثيرة التنوع، وسريعة التغيير بحسب اجتهاد قادتها الشبان الذين يمكن أن تتغير قناعاتهم وبالتالي أحكامهم ومواقفهم بسرعة. وعادة ما تظهر داخلهم اجتهادات نحو مزيد الغلوّ واستسهال الحسم الشرعي في الدولة أو المجتمع أو جزء منه، كما تظهر داخلها صراعات وتتولد تنظيمات وحتى حروب، ولقد قامت بعدة عمليات في تونس قبل الثورة.

أما تيار أنصار الشريعة في تونس فقد وُلد بعد الثورة، بعد صراع بين قياداته أدى إلى تشكل تنظيمي في 2011 و2012. وحسب ما تم نشره في بعض الدراسات في السنوات الأخيرة، وفي ظل ما تجمع من معطيات أمنية أيضا، فقد اتجه هذا التيار خلال سنوات 2012 و2013 إلى مزيد الغلو ومزيد الحسم في المخالفين. وقد حسم في الدولة وفي حركة النهضة في مارس 2012 عندما لم تتمسك بضرورة وجود فصل ينص على الشريعة في مشروع الدستور وأعلنت ذلك وشرحت الأسباب، وحسم في وزير الداخلية في نفس الفترة وبدأ يتهدّده علنا.

وانتقل التنظيم بعد ذلك إلى تشكيل جناح عسكري سري على أعضاء التيار وأنصاره، كما انتقل إلى تجميع السلاح وتخزينه.

كما سقط هذا التيار في استعمال العنف اللفظي والمادي في عدة مناسبات خلال سنة 2011 (حادثة قناة نسمة، حادثة دار عرض سينمائي في تونس) دون استعمال السلاح إلى ذلك الوقت.

وكان من نتائج الصراع معه سقوط شهيدين في حادثة الروحية في ماي 2011 (قَبْلي) وشهيد في سنة 2012 وأنا وزير للداخلية، وعشرين شهيدا في 2013، وحوالي ستين شهيدا في 2014، وأكثر من هذا العدد في سنة 2015 وفي سنة 2016.

استغل هذا التيار حالة المزاج الشعبي العام في السنوات الأولى بعد الثورة لتكوين حاضنة شعبية، ورفع شعارات ملتبسة مثل “اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا”، واستفاد من حالة الانفلات السائدة في الحدود مع ليبيا التي سقطت فيها الدولة تقريبا، وأدخل كميات كبيرة من الأسلحة وأخفاها في مواقع متفرقة. تم هذا حسب التحريات لاحقا، في 2011 و2012.

كان قادة هذا التيار يتصرفون في سنة 2011 والنصف الأول من 2012 تقريبا كـ"دعاة"، ويلقون الدروس والخطابات في المساجد وخارجها.

حينما توليت الوزارة، وفي ضوء متابعاتي وثقافتي، كان واضحا لدي أن هذا التحدي المتمثل في تيار يتطاول على مؤسسات الدولة وقوانينها وسريع الانجذاب لممارسة العنف والإكراه مع المخالفين، لم يكن الشعب، ولا حتى كثير من الناشطين، يميزون بين مختلف أنواع التدين في تونس: بين الغلو والاعتدال، وبين الغلو الشخصي أي على مستوى النفس فقط، وبين الغلو المستعد لممارسة الإكراه وحتى العنف الخ..

لم تكن ثمة سياسة خاصة تجاه هذا التيار قبل ذلك، عدا الأدوار العادية المتمثلة في المراقبة وجمع المعطيات مع تجنب الصدام نظرا للخوف من تداعياته بسبب الوضع العام للمؤسسة الأمنية.

وفي فيفري 2012 حصلت عملية بئر علي بن خليفة (حجز سلاح ومواجهة) وبعد البحث والتحليل واستخلاص النتائج، كان السؤال الذي لم يجد جوابا قاطعا هو: ما هو الهدف من جمع السلاح؟ هل هو لتمريره إلى الجوار، وهذا الرأي تدعمه قرائن، أم هو لاستعماله في تونس؟ وفي هذه الحالة، سيستعمل ضد من؟ ولأي هدف؟ الخ..

وقد قررت مع المختصين أنه بقطع النظر عن الهدف الدقيق من جمع السلاح، وفي انتظار الوصول إليه، فإننا سنفترض وجود تنظيم مسلح أو على الأقل شبكة لذلك، وعلينا كشف ذلك التنظيم: هيكلته وقيادته وعلاقاته وأفراده وأهدافه وخططه، للتصدي له وإحباط مراده.

ومن هذا المنطلق تم تركيز الاستعلام على هذا الأمر، وعلى هذا التيار في أنه وراء العناصر الموقوفة، وتم تسخير الوسائل المركزية والجهوية، والعمل على الاستعداد لاحتمال المواجهة مع تنظيم مسلح عبر توفير التجهيزات الضرورية وإعداد المؤسسة الأمنية.

وتواصل تفعيل سائر الخطط في الغرض، من مراقبة واستعلام وتفعيل أكثر لمنظومة S17، وبحث عن مخازن السلاح، وانتباه ومراجعة لما قد يكون حصل من اختراقات في سلك الأمن أو الحرس وغيرها من المؤسسات الحساسة والوزارات والمطارات والموانئ، وتكثيف المراقبة على ما يجري في المساجد وتوجيه المعطيات حول التجاوزات فيها لوزارة الشؤون الدينية، وتفتيشها دوريا لكشف ما قد يكون تم إخفاؤه فيها من سلاح، سواء تلك التي للتيار وجود مكثف فيها أو غيرها.

كما تواصلت المواجهات الجزئية مع تيار أنصار الشريعة في بعض المساجد وبعض التظاهرات، وتوسعت الإيقافات، ومعها المعطيات، وحجز مزيد من السلاح لدى بعض الأفراد. وكان رد فعل التيار مزيدا من التصعيد ضد الوزارة والوزير، ومزيد التهديد، وتم اتخاذ مزيد من الحماية في ضوء الإفادات الواردة من هنا وهناك. وصارت أغلب قياداته محل إيقاف أو ملاحقة أمنية مكثفة حسب ما تم تسجيله ضدها من خروقات للقانون أو ممارسة العنف أو تحريض عليه.

كان تمشّي المؤسسة الأمنية، زيادة على ضبط الأمن العام، هو الضغط العالي على التنظيم وأنصاره من خلال مختلف الوسائل، والاستعداد المادي لأي مفاجأة يُستعمل فيها السلاح من هذا التنظيم أو من غيره، ومواصلة مساعي تفكيك هذا الوضع...

وتأكّدتُ، عبر اعترافات واضحة، من وجود جناح مسلح تابع لتنظيم أنصار الشريعة، سرّي على بقية أفراد وأنصار التنظيم، كما تم التعرف على عدد من قياداته وعلى أن مخطط التنظيم كان وما زال هو تجميع السلاح وتكوين أفراده المسلحين للهجوم على مؤسسات الدولة وإسقاطها،

في ضوء هذه المعطيات الجديدة،

قمنا بشن هجوم شامل على أفراد الجناح وعلى مخازن السلاح في كامل البلاد وعلى قادة التنظيم حيثما كانوا، بهدف شل قدرة التنظيم والجناح المسلح على تنفيذ مخططه قبل أن ينتبه إلى ذلك.

وفعلا، فبعد الهجوم المركز والمستفيد من المعطيات التي تتطور بسرعة في ضوء الاعترافات والاستعلام، دخل التنظيم في حالة اضطراب وارتباك كبير، وانقطعت كثير من حلقاته وقنوات تواصله، وتم إيقاف أهم كوادره، وكشف أهم مخازن سلاحه، ودخل جزء كبير من عناصره في حالة خوف شديد، وبدأ كثير منهم ومن أنصاره في البحث عن ملاذ آمن لهم، وتخلص آخرون من أسلحتهم، وغيروا مظاهرهم وقطعوا صلاتهم، وفرّ البعض إلى خارج الوطن، إما بشكل قانوني قبل أن تصل إليه يد الأمن أو عبر الحدود الشرقية أو الغربية للبلاد.

وكل هذه السياسات والمعطيات التي أذكرها هنا مثبتة في التقارير الرسمية للوزارة. وكل هذه السياسات الكبرى مزكّاة من قبل مجلس الأمن الدوري لرئاسة الحكومة، وبعضها من قبل مجلس الأمن القومي، وتُقدّم تقارير عامة لمجلس الوزراء.

وكثير من هذه المعطيات والأحداث يتم إطلاع الرأي العام عليها من خلال الندوات الصحفية التي تنظمها الوزارة، ومن خلال البلاغات التي تنشرها، ومن خلال الحوارات الهادفة التي أدلي بها للقنوات التلفزية ووسائل الإعلام، ومن خلال التوضيحات أمام أعضاء المجلس التأسيسي.

واستمرّ الهجوم الأمني بهدف الوصول إلى الشلّ الكلّي للتنظيم وجناحه المسلّح وحجز سلاحه وإيقاف عناصره. وفي مرحلة ما، بدأ ينتبه إلى إحباط مخطّطاته كلّ يوم أكثر، فقرّر هذا التنظيم، أي من بقي منه، اللجوء إلى اغتيال رموز سياسية بغرض إدخال البلاد في الفوضى، لا سيّما والصراع السياسي الحزبي على أشدّه، وبهدف إشغال المؤسّسة الأمنية بالفوضى المتوقّعة واستغلال الفرصة لمحاولة تنفيذ مخطّطه.

ولكنّه، ولئن نجح في ارتكاب جريمتي الاغتيال الإرهابية ضدّ رمزين سياسيين، (الشهيد شكري بلعيد والشهيد محمد البراهمي) فقد فشل في تحقيق الهدف الرئيسي الذي خطّط له، بسبب اليقظة الأمنية وتوقّعات الجهاز الأمني وتشديده الخناق على التنظيم وجناحه المسلّح ووسائله، وبسبب قرار التصنيف الذي تم اتخاذه في أواخر جويلية 2013، والذي زاد في عزلة هذا التيّار وإنهاكه وشلّ حركته، وبثّ الرعب والوهن في من بقي من عناصره، الأمر الذي زاد في فرارهم إلى الخارج بحثًا عن ملاذ آمن.

كما قرّر من تبقّى مصرًّا على المواجهة من التنظيم أو عناصره، الاتجاه إلى ارتكاب عمليات انتقاميّة موجّهة خاصة ضدّ الأمن والجيش، الذين يعتبر أنّهم أفشلوا كلّ مخطّطاته، وانتقامًا لعناصره الذين قُتلوا في مواجهات مسلّحة.

وبحسب ما تجمّع من معطيات، فإنّ هذا التنظيم، بعد أن خسر قيادته وكثيرًا من أفراده بالاعتقال، خاصّة وبعد أن تمّ حجز سلاحه وكشف خطّته وإحباطها، وبعد أن عُزل شعبيًّا بفضل التوعية المستمرّة واستمرار سياسة المواجهة والضغط العالي التي فرضتها المؤسّسة الأمنية، ثمّ انضمّت إليها لاحقًا المؤسّسة العسكرية، فقد سعى من بقي من عناصره إلى الهرب إلى الخارج أو الالتحاق بالجبال التونسيّة، وأتوقّع أن يكون بعضهم قد فرّ إلى بؤر التوتّر.

‌د. التقرير في السياسات الأمنية

على مستوى الوزارة، وزيادةً على الوزير وكاتب الدولة، يساعد الوزير في مجال الأمن مديران عامّان يشرفان على الأمن الوطني والحرس الوطني هما القيادات الرئيسية في المجال الأمني بمقتضى الاختصاص والخبرة والمنصب، بل هما أكثر من يقرّر كلّ في مجاله ويقترح على الوزير فيما زاد عن صلاحياته.

وتحضر هذه القيادات الأمنية مع وزير الداخلية عدة مرات لقاءاته مع رئيس الجمهورية ومع رئيس الحكومة، كما يحضران بصفتهما كل اللقاءات الأمنية الكبرى، ويُعوَّل على رأيهما في الغرض، ويحضران بصفتهما الاجتماع الأمني الدوري بإشراف رئيس الحكومة ويحضران بصفتهما مجلس الأمن القومي

وقد اشتغلت هذه الهياكل بشكل طبيعي خلال تحمّلي لوزارة الداخلية، ثم رئاسة الحكومة، واستمرت كذلك في السنوات الموالية.

كل السياسات التي تم اتباعها في مجال الأمن سنتي 2012 و2013، وكل الأحداث الهامة التي حصلت، قُدّمت فيها تقارير وافية من وزير الداخلية ومساعديه لهذه المجالس، وناقشتها، واتخذت قرارات أو توصيات بشأنها، ولا شك أنها موجودة في أرشيف هذه المؤسسات.

واستمرّ هذا الأسلوب بعد مغادرتي الحكومة، وهؤلاء الوزراء، وهؤلاء المسؤولون الأمنيون والعسكريون والمدنيون ما زالوا، والحمد لله، على قيد الحياة، وبعضهم ما زال يتحمل مسؤوليات سامية، ويمكنهم بالتالي أن يقدموا إفاداتهم وشهاداتهم عن تلك المرحلة.

وإني لأتساءل عن سبب عدم أخذ شهاداتهم على الأقل، وقد كانوا شركاء في تحديد السياسات الأمنية.

لقد عمل هؤلاء فترات طويلة قبلي، وبعد خروجي من الحكومة، ثم عُوّضوا بغيرهم مرّات عديدة طوال أكثر من عشر سنوات، (وزراء داخلية، مديرون عامون رؤساء حكومات رؤساء جمهورية قادة سامون في الجيش الوطني) ولم يصدر عن أحدهم شكّ في نواياي أو في تواطئي مع تنظيم أنصار الشريعة أو توظيفه أو تهاوني في اتخاذ ما يلزم، في إطار الصلاحيات وفي إطار القانون والإمكانيات والظروف المعروفة.

وبالتالي لم تطلب أي جهة فتح بحث ضدّي في الغرض. أكلُّ هذا تواطؤ منهم؟

لا، بل إن ذلك يبرهن على قناعة بأننا اجتهدنا بكل إخلاص، وبأنّ مواقفي كانت واضحة أمامهم ولا يرقى إليها أي شك.

إذا كنّا نبحث عن الحقيقة، فإنّ أوّل أبوابها هو الاستماع إلى كلّ المشاركين في ضبط السياسات يومها، والاطّلاع عليها في محاضر جلسات الاجتماعات.

فهل من المعقول أن لا يُستمع إلى وزير الداخلية الذي سبقني ماذا ترك وماذا لاحظ بعد ذلك كمستشار ؟ وإلى الوزير الذي خلفني، ماذا وجد؟ وماذا أضاف؟

‌ه. موضوع السفر إلى بؤر التوتر بعد الثورة

لم يكن السفر إلى بؤر التوتر ـ والمقصود هنا سوريا وليبيا والعراق بالخصوص ـ موضوعًا حاضرًا بقوة في سنتي 2011 و2012، وكانت الجهة المعنية في الوزارة تقوم بعملها بشكل شبه عادي، من خلال تفعيل نظام S17، والمنع من السفر عند الاقتضاء، ومن الدخول في حالات أخرى. وكان الأمن يقوم بدوره في تفكيك خلايا تنظيم التسفير غير القانوني، وفي الملف أرقام لنتائج ذلك العمل.

وفي ذاكرتي أن هذا الموضوع بدأ يُطرح إعلاميًا بقوة في بدايات سنة 2013، ولا أذكر أن تقارير مهمّة وصلتني في الغرض كوزير داخلية سنة 2012، ولا أذكر ما إذا كنا كوزارة قد اتخذنا إجراءات مخصوصة في الغرض، نظرًا لبعد المسافة الزمنية. ويمكن العودة إلى المديرين المعنيين في تلك الفترة لمعرفة الحقيقة والأرقام.

وفي سنة 2013، وفي ضوء معطيات أمنية، اتخذنا ضمن مجلس وزاري مختص في رئاسة الحكومة، وبإشرافي، إجراءات صارمة إضافية للحدّ من السفر إلى بؤر التوتر. وكانت بعض هذه الإجراءات تتعارض مع حقوق الإنسان، ولكنني كرئيس حكومة قرّرتُ بأنه إذا تعارضت مقتضيات الأمن القومي مع بعض حقوق الإنسان، ولم نجد طريقًا للتوفيق، فإني أقدّم مقتضيات حماية الأمن القومي، بالمقدار والمدّة الضروريين لحمايته. وهذا ما تم فعلاً.

وقد اشتكتني منظمات حقوقية وندّدت بي، وقد تحملتُ مسؤوليتي في الموضوع، في موضوع هو أصلاً محلّ آراء مختلفة بين المختصين الأكاديميين. وإن شئنا، فقد استلهمتُ من القاعدة العربية الإسلامية التي تفيد بأن “الضرورات تبيح المحظورات”، على أن تُقدَّر هذه الضرورات بقدرها المطلوب، كمًّا ووقتاً، ثم يزول الاستثناء بعد تحقق الغرض، حتى لا تُتّخذ القاعدة مطيّة للظلم وتبريره واستمراره.

ثم إن القانون واضح في منع الذهاب إلى بؤر التوتر للانخراط في الصراعات، ولم تدعُ حركة النهضة إلى التسفير، ولو فعلت، لكان أكثر من سافر شبابها، وهذا لم يحصل. والنهضة ساندت ثورة الشعب السوري على نظامه المستبد، كغيرها من الأحزاب.

وأنا لا أتلقى ولا أقبل تعليمات من أي حزب، حاكمًا كان أو معارضًا، بل أعمل وفق الدستور والقانون وتوجيهات مؤسسات الدولة. كما أعمل بإخلاص وانضباط، وأفصل بين الدولة والأحزاب.

وقد تمّ توظيف موضوع التسفير في التجاذبات السياسية، ونُشرت أرقام كبيرة في إطار المزايدات، وأنا أعتبر أن أرقام الرئاسة والدفاع والداخلية هي الأقرب للواقع، غير أنها تشمل من سافر قبل الثورة وبعدها إلى سنة 2017، وكذلك من سافر من التونسيين من بلدان أخرى يقيمون بها، غربًا أو شرقًا.

ويمكن لوزارة الداخلية أن تضبط الأرقام لكل سنة، وذلك وحده يمكن من التقييم والحقيقة.

وفي تقديري، فإن السفر إلى بؤر التوتر جرى كما يلي:

- بعد الثورة في 2011 و2012، يمكن أن يكون قد سافر عدد قليل، وبشكل شخصي، ذلك أن التيٌار كان يُعِدّ السلاح والأفراد لخطته، فيُستبعَد أن يشجّع على التسفير.

- وبداية من منتصف 2012، تضاعف الضغط الأمني كثيرًا، وكثرت الإيقافات، وكان من نتائج ذلك هروب البعض خوفًا، وربما انضمامهم إلى إحدى الجماعات المقاتلة.

- ومع أوائل 2013، ومع اكتشاف الجناح المسلح وتعاظم الهجوم الأمني وتركيزه، أُسقِط في يد التنظيم، وفرّ عدد أكبر إلى الخارج بعد فشل الخطة في تونس، واتّجه بعضهم إلى الانتقام بالاغتيالات.

ولهذا، أتوقّع أن يكون عدد الهاربين إلى الخارج أكبر في النصف الأول من سنة 2013، وأكبر منه في النصف الثاني، خاصة بعد تصنيف التنظيم كمنظمة إرهابية.

- وسيرتفع العدد في 2014 و2015 أكثر، وتدعّم هذه التقديرات الأرقام المقدمة إليكم في تقارير الدفاع ووزارة الداخلية، علمًا وأن الملاحقة تهمّ من أجرم في حق البلاد والقانون، لا من حمل قناعات خاصة أو فكرًا، فهذه تُواجه بطرق ديمقراطية.

خلاصات

أولًا: لقد خضنا حربًا من سنة 2012 إلى 2016، وما زالت بقاياها. قدّمنا فيها شهداء وتضحيات كبيرة، وبمقياس النتيجة، انتصرنا على الإرهاب والحمد لله، وكنا أفضل من بلدان مشابهة، وأخرى تفوقنا إمكانيات وظروفًا.

ولا شك أن النجاحات والإخفاقات لا يتحملها شخص واحد، وكذلك المسؤوليات الجزائية ـ إن وُجدت ـ وذلك لكثرة المسؤولين الذين تداولوا على كل المسؤوليات طوال عدة سنوات.

وتقديري أني لا أتحمل مسؤولية جزائية، وإنما سياسية، تمامًا كما يتحمل الذين سبقوني والذين جاؤوا من بعدي، لا سيما أن السياسات التي ضُبطت في سنتي 2012 و2013 هي التي استمرت إلى اليوم.

كما أن الإحصائيات الثابتة والمرجَّحة تؤكّد أن أقل عدد من الشهداء، وأقل عدد من المغادرين إلى بؤر التوتر، كان في سنة 2012، فضلًا على أنني كنت الوحيد الذي حدّد الرّؤية والسياسة في الغرض، (وفي الملف تسجيلات لذلك، وقصاصات صحفية وهي متواترة) بما لا يمكن معه الشك في تواطئي أو تعاطفي أو حيادي تجاه هذا التيار، هذا فضلًا عن عداء هذا التيار لي، ومساعيه لتصفيتي، وهذا مُثبت منذ بداية 2012 لدى الأمن وفي الإعلام.

ثانيًا: لم أكن في أي يوم، قبل الثورة أو بعدها، متواطئًا أو محايدًا إزاء هذا التيار لاختلافي الجذري معه فكرًا وأهدافًا ومنهجًا. ولم أكن محايدًا تجاهه ولا تجاه التسفير، بل واجهته في إطار القانون، وبالوسائل والخطط المعروفة، على أسس الدولة الديمقراطية التي تتعارض جذريًا مع هذا التيار، ومع كل منغلق داخل فكر لا يتفاعل. وارتبط النسق بتطور المعطيات والإمكانيات والظروف.

ثالثًا: لقد حرصت، طوال ممارستي لمهامي، على احترام الدستور والقوانين والمؤسسات، وعلى الإخلاص للشعب والوطن وللمؤسسات الشرعية، ومتشبعًا بأن الدولة فوق الأحزاب والمنظمات والجمعيات.

رابعًا: إن الشكاية المقدمة ضدي هي جزء من عملية منظمة لترسيخ سردية مضلِّلة، تحلّ الحكم على النوايا محل الحكم على الحقيقة.

وأولى أكبر ضحاياها هي الحقيقة باغتيالها، والتاريخ بتزويره. وثاني أكبر ضحية هو أنا، بما نالني وما يزال من تشويه وظلم وجحود.

لقد حَكم عليّ هؤلاء بالاغتيال المادي، وحكم عليّ المسيطرون على السرد التاريخي والإعلام المتحيّز بالإعدام الرمزي..

أنا لست مجرمًا. أنا بريء من هذه التهم. أنا، في هذا الملف، ضحية.

هل سيمكن القضاء من تحقيق العدل والإنصاف؟

هل سيكون مستقلًا عن كل سلطة خارجة عنه، إلا سلطة التشريع؟

ذلك ما أتمناه.

ويبقى أملي كبيرًا في أن التاريخ سيُنصف الحقيقة يومًا ما، ولو بعد رحيلنا جميعًا.

وتبقى ثقتي مطلقة في عدالة السماء، يوم نقف جميعًا أمام الله عزّ وجلّ:

“فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”.

نسأل الله الهداية والتوفيق وحُسن الخاتمة للجميع.

علي لعريض

الجمعة 18 أفريل 2025