راشد الغنوشي / زعيم حركة النهضة
تونس.. من الـثورة إلـى الدستور
هذه شهادة للشيخ راشد الفذوشى، زعيم حركة النهضة التونسية، حررها، إثر مقابلة معه، صلاح الدين الجورشى.
فى هذه الشهادة يقول الشيخ راشد الغنوشى إن إخوانه فى الحركة ظلوا يصفون موقفه من بن على بأنه يتضمن الكثير من الشخصنة، وهو أمر كان محظورا داخل الحركة، التي كانت تشدد على عدم نقد بن على بطريقة مباشرة.
فى هذه الشهادة يؤكد الشيخ راشد الفنوشى أن على الإسلاميين ألا يحكموا فى، هذه المرحلة الانتقالية، وإن جاءت بهم إلى الحكم صناديق الاقتراع. فالوضع الإقليمى والدولى، فى نظره، لا يسمحان الـيـوم للإسلاميين بأن يتفردوا بالسلطة والوضع الداخلى لا يساعد فى ذلك؛ ذلك أن النخبة التونسية - على نحو عام - ليست مع الإسلاميين، بقطع الـنظر إن كانت محقة فى موقفها أو لا.
يقول الغنوشى فى هذه الشهادة، إن الجيش هو صاحب السلطة الحقيقية فى مصر. وقد حاول، الشعب المصرى، أن ينتزع السلطة منه، ففشل. أما تونـس فجيشها حمى الثورة، ورفض أن يلتقط السلطة حين كانت ملقاة على الأرض.
ويعرض الغنوشي لتجربة الإخوان في مصر فيقول: للإخوان أخطاء، بكلّ تأكيد. ولكنّه لا يرى الوقتَ ملائمًا لتسليط الأضواء عليها. ففي نظره، إن الوقت الآن، هو وقت مناصرة المظلوم، حتى يستعيد حقّه. وبعد ذلك، يحقّ لأيٍ كان أن ينتقده.
يرى الغنوشي، كان عليهم أن يجتهدوا أكثر في تلك المرحلة الانتقالية، ليدمجوا شخصيات ناضلت قبل الثورة، من قبيل أحمد نجيب الشابي، وحمّة الهمّامي، وسواهما. وقال: لو صبرنا أكثر في إدارة المفاوضات، وقدّمنا تنازلات أكبر، لكان بإمكاننا تغيير اتجاه التاريخ في تونس، وذلك بتطبيق نهج التوافق الذي عدنا إليه مع نهاية 2013.
====================================================================
في البدء، أود أن أعترف بأنه على الرغم من اتساع رقعة الاحتجاجات على نظام زين العابدين بن علي، منذ أواسط كانون الأول/ ديسمبر2010، وتفاعلي الشخصي معها، لم أستعمل مصطلح "الثورة" لوصف هذه الاحتجاجات إلا بعد رحيل بن علي. قبل الثورة، وإلى أيامها الأولى، كنت أكتب، كل شهر تقريبا، مقالة في موقع "الجزيرة نت". وقد كتبت عن التحركات الاجتماعية التي عرفتها مدينة سيدي بوزيد، وسميتها "انتفاضة". وقبل ذلك بسنة، كتبت عن انتفاضة مدينة بنقردان. وعندما تطورت أحداث سيدي بوزيد وتصاعدت حدة التوتر، كتبت مقالتين دعوت فيهما الشعب التونسي إلى ألا يترك سيدي بوزيد وحدها في مواجهة قمع النظام، إلا أنني لم أستعمل تعبير "ثورة"، ووجدت نفسي أستعمل تعبير الانتفاضة". هذا، مع أن "الثورة" فكرة وكلمة لم تكن غريبة عني، وربما استعملتها في مواقع أخرى من كتاباتي. هناك كتيب جمع الإخوة أوراقه، ونشروه تحت عنوان "إرهاصات الثورة"، ضم جل المقالات التي كتبتها قبل الرابع عشر من جانفي (كانون الثاني/ يناير) 2011، وتعد بمنزلة الإرهاصات التي مهدت للثورة، منها مقالة طويلة نشرت في كتاب أصدرته اللجنة العربية لحقوق الإنسان في باريس التي يرأسها الناشط الحقوقي السوري هيثم مناع، تحت عنوان "تونس الغد". صدر هذا الكتاب في ربيع 2001، قبيل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وشارك فيه عدد من السياسيين والناشطين التونسيين، من توجهات مختلفة؛ علمانية وإسلامية، وكان يعبر عن حالة يأس من نظام بن علي ودعوة إلى الثورة.
مقالتي في الكتاب بعنوان "دقت ساعة التغيير في تونس". وفيها نفضت اليد من نظام بن علي.
بعيد هذا، وقعت، مع محمد مواعدة الرئيس السابق لحركة الدمقراطيين الاشتراكيين، بيانا شديد اللهجة ضد بن علي. ثم توالت بعد ذلك جملة من الأعمال والتنسيق مع بعض فصائل المعارضة، وصولا إلى مبادرة 18 تشرين الأول/ أكتوبر التي مثلت خطوة مهمة في الطريق الصحيح لممارسة أقصى درجات الضغط السياسي على النظام.
غير أن أحداث II أيلول/ سبتمبر أعطت لبن علي الدعم، ومكنته مر نفس إضافي استمر لعشر سنوات أخرى. كنت أعتقد، جازما، بأن بن علي كان سيسقط قبل ذلك التاريخ، في الأقل منذ أواخر التسعينيات. ولكته نجح في الاستفادة من الوضع الدولي، حين قدم نفسه بوصفه صاحب تجربة ناجحة في محاربة الإرهاب على حساب الديمقراطية.
خدمت أحداث II أيلول/ سبتمبر نظام بن علي، كما خدمته أحداث العراق خلال سنة 1991، حين كان النظام مختنقا، مع أنه كان في بداية عهده، وكان يعاني التبعات السلبية للانتخابات البرلمانية التي جرت سنة 1989، ومثلت خيبة شديدة وفشلا لشعارات بن علي التي رفعها مباشرة بعد استيلائه على الحكم، غير أن انتخابات 1989 انتهت إلى أن ينفرد حزبه بجميع مقاعد البرلمان.
وحتى الانتخابات البلدية التي جرت سنة 1990، قاطعتها المعارضة كلها. ولكن، حين اندلعت فجأة أحداث العراق (غزو الكويت، والتدخل الأميركي في المنطقة)، استغل بن علي تلك الأحداث، ونجح في الركوب عليها، وفي إعادة علاقته بأطراف المعارضة، وذلك من خلال الرسالة التي وجهها أحمد نجيب الشابي إلى بن علي. وقد جاء خطاب هذا الأخير عن أزمة الخليج ليتيح أرضية مكنته من أن يلتقي من جديد بالمعارضة، وهو ما أسهم كثيرا في تهميش "النهضة" وعزلها سياسيا.
الرهان على المصالحة مع بن علي
كنت أعمل على أن ينتهي نظام بن علي بأسرع وقت ممكن. وكنت حريصا على ذلك ولا أخفيه عن إخواني في "حركة النهضة"، على الرغم من أن ذلك الموقف لم يكن يومها ينسجم مع السياسة الرسمية التي تعتمدها الأغلبية؛ فالخط السياسي للحركة كان -قبل اندلاع الثورة - يدعو إلى المصالحة والبحث عن الوسائل والطرق التي يمكن آن تؤدي إليها. ولكتني - شخصيا - كان مستقرا في نفسي أن بن علي غير قابل بهذا الأمر، ولا هو مستعد له. ولذلك، كانت أحاديثي تؤكد باستمرار أن الثورة هي الحل. ومع ذلك، كنت أترك حيزا صغيرا للخيار الأغلبي، إرضاء للموقف الرسمي، مع إدراكي أن احتمال تحقيق صيغة من صيغ المصالحة بعيد وضعيف. ولذلك، كانت مؤسسات الحركة في المهجر وما يصدره مجلس الشورى من ملاحظات تعد، دائمها وباستمرار، خطابي نابيا وحادا، مقارنة بالموقف الرسمي.
كان إخواني في الحركة يصفون موقفي من بن علي بأنه يتضمن الكثير من الشخصنة. وكان هذا الأمر محظورا داخل الحركة التي كانت تشدد على عدم نقد بن علي بطريقة مباشرة. ولذلك، كانت المرة الأولى التي عبرت فيها عن رأيي، بوضوح وأمام العالم، هي ليلة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، على قناة الجزيرة، إثر الخطاب الثالث والأخير الذي توجه به بن علي إلى الشعب. سئلت يومها عن رأيي، فقلت بصراحة ودون مراوغة مخاطبا بن علي: "وعدتنا يوم السابع من نوفمبر بالديمقراطية وصدقناك ولكنك كذبت. ولهذا، لن نصدقك هذه المرة، وأقول لك اليوم: ارحل".
لم أكن أشعر في تلك اللحظة بأنني أعبر عن الموقف الرسمي، ولكنني أحسست براحة كبيرة، وقلت: إذا مت الآن، فقد أديت الذي علي، وليفعل إخواني بعد ذلك ما يريدون.
نعم ، بعد السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، تقاربنا مع بن علي. كنت قد خرجت من السجن للتو، وكنت شديد القناعة بضرورة المصالحة معه. كنث أشعر، حينها، أنه - مع رحيل بورقيبة - انتهت مرحلة من تاريخ تونس، وبدأت مرحلة جديدة.
ولم تكن ثمة شروط موضوعية تمنع "حركة النهضة" من أن تؤسس بداية جديدة مع حاكم جديد، بعيدا عن أجواء الاحتقان والمواجهة. كانت الحركة مرهقة، فقد وجهت اتهامات غليظة وظالمة لما لا يقل عن عشرة آلاف من كوادرنا. وكان رأيي، آنئذ، أنه لا بد من تحقيق المصالحة مع الحزب الحاكم ومع الدولة. غير أن الحركة لم تكن مقتنعة بذلك، في حين أنجز اليسار يومها مصالحته مع بن علي، ولكن على حساب الإسلاميين، وعلى حساب الديمقراطية، في النتيجة.
يومها، صدقنا الشعارات التي تضمنها بيان 7 نوفمبر، وثمنا انتهاء المرحلة البورقيبية، وأردنا آن نسهم في تجسيد ما ورد في ذلك البيان الذي دشن به بن علي حكمه. وكنت مخلصا وجادا لتحقيق ذلك، ولم أكن أتعامل بوجهين، حتى في اجتماعاتنا الخاصة. ولذلك، رفضت - بصدق - النيل من شخص بن علي والاستهزاء به.
لقد عبرت له، في اللقاء الذي جمعني به، عن رغبتنا في الإسهام في تحقيق ما ورد في بيان 7 نوفمبر. وكنت، قبل ذلك، قد بعثت له رسالة من داخل السجن، قلت له فيها: "إذا كنت أتيت إلى السلطة لتحقق ما ورد في بيانك، فنحن نعتبر أنك قادر على تجسيد كل ما دعت إليه حركات المعارضة، منذ اليوسفية ونضالاتها، وسندعمك في ذلك إلى الآخر، أما إذا كنت قادما إلى السلطة باعتبارك وزير داخلية بورقيبة، لتواصل ما فعله بورقيبة، فليس بيننا وبينك إلا الحرب". بعد ذلك، أرسل إلي في سجني من يفاوضني. ولما غادرت السجن، بدأت المفاوضات مع من يمثل السلطة في ذلك الوقت، وكان هناك أمل في أن تؤدي تلك المفاوضات إلى تجسيد تلك المصالحة على أرض الواقع، لولا الصدمة التي أسفرت عنها انتخابات 1989، إذ لم يكن النظام يتوقع ذلك التأييد الواسع والمتدفق للمرشحين الذين دعمتهم الحركة. وفي المقابل، كانت صدمة قوية لنا، حين خرجنا من تلك الانتخابات من دون أي شيء. بعدها، وجهنا رسالة إلى بن علي، قلنا له فيها إن طموحاتنا لم تكن كبيرة، وأكدنا اقتناعنا بأن هناك توازنات في البلاد نحن واعون بها. قلنا له إننا لا نريد سوى تثبيت شرعيتنا، حتى لا نعود إلى المواجهة مجددا. وفي الحقيقة، كانت قيادة الحركة تطمح إلى مشاركة محدودة في تلك الانتخابات. ولذلك، لم نكن نأمل في أن نحصل على أكثر من 10-15 مقعدا، غير أن النزول إلى الانتخابات بكثافة عالية ناتج في الحقيقة عن انفلات حصل داخل الحركة؛ فقد تصرفت القواعد تصرفا يختلف عما أرادته القيادة، إذ كانت ترى أنها هي التي انتصرت على بورقيبة، فتحركت في أعماقها مشاعرها المكبوتة، وحاولت أن تثبت لنفسها وللجميع أنها موجودة.
كتا نظن أن البورقيبية انتهت سنة 1987، لكن بن علي مدد العهد البورقيبي 20 سنة أخرى، مستغلا في سبيل ذلك السياق العام، الداخلي والإقليمي.
الإسلاميون و"حلم" السلطة
على الرغم من طول مرحلة القمع والتهميش لـ "حركة النهضة"، لم تغادرني القناعة، عبر 22 سنة من الهجرة، بأن الشعب التونسي، في أول فرصة ستعطى له، سيختار الحركة. الشعب التونسي وفي. ربما يتظاهر بالولاء والاستسلام أحيانا، ولكته يقول كلمته في الوقت المناسب. ولهذا، لم تفاجئني نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011. بل كنت أتوقع أن تكون الأصوات التي منحت ثقتها للحركة أكثر مما حصلنا عليه بالفعل. ولو كان النظام الانتخابي نظاما آخر لحصلنا على عدد أكبر من مقاعد المجلس.
وأنا في الطائرة التي كانت تقلني من لندن إلى بلدي، بعد غربة دامت 22 عاما، كنت أقول في نفسي: لقد حان الوقت لتحقيق الديمقراطية في تونس. كانت كتاباتي كلها تدعو إلى ديمقراطية برلمانية. وهذا واضح في كتابي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، والذي جمعت وثائقه ومسوداته في السجن سنتي 1984 و1985[1]، وكذلك في الكتيب الصغير الذي يحمل عنوان "حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي". وعلى نحو عام، كانت فكرة الديمقراطية التي تجتث أسس السلطة المستبدة فكرة أساسية في كتاباتي، منذ بداية الثمانينيات إلى أن قامت الثورة.
وهكذا، أستطيع أن أقول، صادقا، إنني لم أكن أفكر في الوصول شخصيا إلى السلطة. بل بالعكس، كنت شديد القناعة بأنه لا ينبغي لي أن أنافس شخصيا على الحكم. لا أقول ذلك زهدا في السلطة، بل هذه هي قراءتي لموازين القوى ونظرتي لنفسي وللآخرين. كل ذلك جعلني أعتقد بأن دخولي إلى آلة الحكم من شأنه أن يفسد العملية السياسية التي انطلقت في تونس، لأن هذه المنافسة ستكون غير متوازنة، فأنا سأدخل إلى ساحة المنافسة برصيد نضالي وديني، وهو ما لا يملكه الآخرون. وكنت أخشى أنه إذا ما حصل ذلك فإن المسار الانتقالي كله سيتضرر.
وفي خارج السياق الداخلي، لم تكن موازين القوى الإقليمية والدولية، في مصلحة الإسلاميين. هذا الأمر هو الذي جعلنا نقبل بالخروج من السلطة ومغادرتها، بعد سنتين من الحكم، وهو نفسه الذي جعلنا نعارض بشدة، ترشح الأخ حمادي الجبالي للانتخابات الرئاسية، في حين أنه كان شديد القناعة بأنه مؤهل لتحمل هذه المسؤولية. لقد خسرنا حمادي الجبالي، أحد قياديي "النهضة"، لكن "النهضة" نفسها ربحت، وربحت معها البلاد.
إن تونس بلد صغير، لا تتحمل التصادم مع محيطها الإقليمي والدولي، بكل تأكيد. مثل هذا التصادم يم تتحمله دولة قوية وذات إمكانيات عالية، مثل إيران، فكيف بتونس؟! لا الوضع الإقليمي ولا الدولي يسمحان اليوم للإسلاميين بأن ينفردوا بالسلطة. والوضع الداخلي يساعد في ذلك؛ ذلك آن النخبة التونسية - على نحو عام - ليست مع الإسلاميين، بقطع النظر إن كانت محقة في موقفها أو لا. كنت دائما أقول لإخواني: لا يمكنكم أن تحكموا مجتمعا رغما عن نخبته، إلا في حالة واحدة، وهي أن تمارسوا حجما هائلا من العنف، وهذا من شأنه أن يشوه المشروع الإسلامي ويقضي عليه.
لا يمكننا أن نصنع نخبة موالية لنا عبر اللجوء إلى القمع والرعب. والدليل على ذلك أن النظام البورقيبي، ومن بعده بن علي، لم يستطيعا أن يطوعا النخبة على نحو ما يريدان. إن مسألة موازين القوى هي فكرة أساسية في الثقافة السياسية للحركة. ويجب أن تكون الأغلبية مدعومة بنخبة فاعلة، بمعنى أن الكم وحده غير كاف. لا بد من توافر الحد الأدنى من الكيف إلى جانبه.
دائما ما كنا نأخذ مثال الجزائر لتأكيد هذه الفكرة؛ فـ "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" حصلت على %8O في أول انتخابات تشريعية نزيهة تجري في هذا البلد الشقيق، أواخر سنة 1991. وبالمنطق الكمي الحسابي الديمقراطي، يمكن القول إن الجبهة حصلت على شرعية عالية جدا. ولكن، ماذا فعلت بها؟ ميزان القوى هو الذي قال كلمته، ولم ينفعها كثيرا المنطق الكمي. ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدتها حولك، في حين أن النخب جميعا (الجيش، والشرطة، والإدارة، والآداب، والإعلام، والمال، والفنون، فضلا عن العلاقات الدولية) ليست إلى جانبك، ولا تعمل لفائدة الإسلاميين. ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدتها حولك؟ لن تفعل بها شيئا، بل على العكس يمكن أن تقودها إلى محرقة.
عرف موريس دوفرجيه الدمقراطية بأنها "فيفتي فيفتي"، نصف مقابل نصف، يعني نصفها جماهير، أي حكم الشعب، ونصفها الآخر حكم النخبة. هناك تفويض، وهناك نخبة، 50% حكم الشعب، و50% حكم النخبة. ولذلك، هو يعرفها بأنها "حكم النخبة باسم الجماهير". أما في الديكتاتورية فإن النخبة تحكم باسمها، أو باسم الجيش، وليس باسم الشعب.
ولعل من أهم ما ينقص الفكر الإسلامي السياسي الديمقراطي هو غياب فكرة موازين القوى، مع أنها واضحة في الإسلام الذي لم يقل: أنتم على حق والآخرون على باطل، بل قال: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فاتقوا الله ما استطعتم"، و"ما أمرتكم فآتوا منه ما استطعتم"، و"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه".
سنة 1993، ألقيت محاضرة في لندن، تحدثت فيها عما تسمح به موازين القوى للإسلاميين. وقلت يومها إنه يسمح لهم بالمشاركة، على ألا تزيد هذه المشاركة عن الثلث، وأضفت - جادا - أن الثلث كثير. إذا تجاوز الإسلاميون الثلث في السلطة فقد تجاوزوا خط النار. وقد جعل هذا الأمر إسلاميي مصر يحجمون من أنفسهم قبل ثورة 25 يناير، وهو ما يلتزمه إسلاميو المغرب إلى اليوم. وهذا يعني التزام قراءة عميقة لموازين القوى. هذه القراءة تجعلك تكبح رغباتك، كمن يجلس إلى مائدة حافلة بالطعام، ويدرك أنه مصاب بمرض السكري وغيره من الأمراض، فلا يلتهم كل ما تشتهيه نفسه، وإنما عليه أن يكبح شهواته. وهكذا الأمر في السياسة: لا بد آن نكبح جماح رغباتنا، فلا نأخذ ما لا تسمح به موازين القوى. ولذلك، آنا لا أوافق الرأي القائل بأن هذه قناعتنا في "النهضة" بالتنازل عن الحكم جاءت متأخرة، وهي نتيجة ممارسة خاطئة للسلطة، ونتيجة الدخول في مواجهة مع المعارضة. هذه قناعة راسخة وإيمان بضرورة عدم الانفراد بالحكم في المرحلة الانتقالية.
وبصراحة، كان بإمكاننا أن نحقق الأغلبية، من دون اللجوء إلى التحالف مع الأحزاب العلمانية، وأن نقيم سلطة يديرها الإسلاميون وحدهم. من الناحية الآلية والقانونية، كان الأمر سهلا، ولكننا استبعدنا هذا الخيار من الناحية السياسية. وهو ما جعل الهاشمي الحامدي، رئيس تيار "العريضة الشعبية" يتألم كثيرا بسبب رفضنا التحالف معه وتشكيل حكومة مشتركة. كانت تلك قناعة راسخة، ليس لدي فحسب، بل لدى أعضاء الحركة جميعا. وعلى هذا الأساس، لم تتجه نخبة الحركة نحو الهاشمي الحامدي لاستقطابه، بل اتجهت إلى الآخرين.
لم يكن الخلل في الانفتاح على العلمانيين. بل بالعكس هذا اختيار إيجابي. الخلل كان في أننا لم ننفتح إلا على البعض منهم، وليس على الجميع. كان علينا أن نجتهد أكثر في تلك المرحلة الانتقالية، لندمج شخصيات ناضلت قبل الثورة، من قبيل أحمد نجيب الشاي، وحمة الهمامي، وسواهما.
لو صبرنا أكثر في إدارة المفاوضات، وقدمنا تنازلات أكبر، لكان بإمكاننا تغيير اتجاه التاريخ في تونس، وذلك بتطبيق نهج التوافق الذي عدنا إليه مع نهاية 2013.
تحالف بين الإسلاميين والعلمانيين
في سنة 2009 أو 2010، كنت أشارك في ندوة نظمها قسم الديمقراطية في إحدى جامعات لندن. وكان من بين المشاركين الدكتور المنصف المرزوقي. ركزت مداخلتي على ضرورة التنويه بالتجربة التونسية، ممثلة يومها في "مبادرة 18 أكتوبر" التي جمعت إسلاميين وعلمانيين في مشروع سياسي واحد. وأعتقد بأن ذلك المشروع هو الذي مهد، فيما بعد، للترويكا؛ فحين بدأنا الحوار على تأليف الحكومة، لم يكن بيننا نقاش أيديولوجي، بوصف الأرضية الأيديولوجية كانت أصلا جاهزة واتفق عليها.
سئلت يومها، ونحن في لندن: "كيف تتحالفون مع العلمانيين وتتركون الإسلاميين؟". قلت، بمزاح: "إن الدكتور المرزوقي العلماني أقرب إلي من مفتي تونس". أنا، بالطبع، لا أشكك في إسلام مفتي الديار التونسية أو علمه. لكنه - من الناحية السياسية - كان ينتمي إلى عالم آخر؛ فقد كان منحازا إلى جبهة المخاصمين لنا.
لا ينبغي أن يصنف الناس، من وجهة نظري، تصنيفا أيديولوجيا. وإنما المطلوب أن نخضعهم للتصنيف السياسي، من حيث قربهم من الاستبداد أو بعدهم عنه، ومدى تبنيهم الحكم التعددي الديمقراطي، أو مخالفتهم له، بقطع النظر عن تدينهم. ولهذا، قلت: إن المرزوقي أقرب إلي. لقد بنيت الفكرة على أساس المصالح، وليس الرؤية العقائدية والأيديولوجية المشتركة.
المهم عندي، هو أن تكون الرؤية مشتركة وقائمة بالأساس على الموقف من الدمقراطية، لا غير ذلك.
ولهذا، لم يكن لدينا مانع من أن نتحاور مع "الجبهة الشعبية". وكنا على استعداد لأن ندير حكومة ائتلافية واسعة. ومع أن "النهضة"، في الحقيقة، لم تعرض على الجبهة المشاركة في الحكومة، ولم تعمل على إقناعها بذلك، ولم تقم عليها الحجة، إلا أن خطاب الجبهة كان شديدا، لا يغري بالمشاركة. قد يكون هذا قصر نظر منا، وربما كان علينا أن نصبر أكثر حتى تقتنع الجبهة بضرورة المشاركة. وبصراحة، لم أجد، إلى الآن، أي مبرر لموقف الجبهة المعادي لنا، ولا أعرف لماذا اتخذت الطريق الأخرى ولم تواصل البناء معنا، انطلاقا من ميراث "18 أكتوبر" المشترك، وهو ميراث لا يمكن أن يكون عبئا، بقدر ما هو إنجاز تعتز به تونس وتفتخر.
نعم، نحن كنا نتقاسم الأدوار، بين أطراف الترويكا. وقد اتفقنا مع بن جعفر والمرزوقي على أن نحاول توسيع دائرة المشاورات؛ فتعهد بن جعفر بالاتصال بأحمد نجيب الشاي وبالجبهة الشعبية. وقد عقد، بالفعل، اجتماعات مع قيادات "الحزب الجمهوري"، ولكنه لم يتوصل إلى اتفاق معهم.
وفي تقديري الآن، أن تلك اللقاءات لم تستنفد كل الجهود؛ إذ كان ممكنا الإلحاح أكثر وتقديم تنازلات وإغراءات أكثر، فالمصلحة الوطنية كانت تقتضي الانفتاح على الجميع. ولكن ذلك لم يحصل.
حاولت، من جهتي، أن نتدارك الأمر في الحكومات اللاحقة، فنصحت الحبيب الصيد - حين كنا نتفاوض على تشكيل الحكومة - بأن يشرك "الجبهة الشعبية"، لأن وجود الجبهة داخل الحكومة - في تقديري - أنفع للحكومة من بقائها خارجها، وأنفع أيضا للتحول الديمقراطي. لكن، للأسف، كانت الجبهة مستعدة للمشاركة في حكومة الصيد، ولكن بشرط أساسي، هو إبعاد "النهضة". وهذا منطق إقصائي، مضر بالتحول الديمقراطي، وبالجبهة نفسها.
ولنا مع الشابي قصة لا تختلف كثيرا؛ فهو يعتقد بأن "النهضة" قامت بدور بعد الثورة في تقليص حجمه وتهميشه. وهذه ليست الحقيقة. الشابي صديقي بالفعل، وعلاقتي به وثيقة، وأنا أعد نفسي وفيا لأصدقائي. بل هو كان أقرب السياسيين في تونس إلينا، بمن في ذلك مصطفى بن جعفر، رئيس حزب التكتل، والذي تولى مسؤولية رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وكان متحفظا في التعامل معنا قبل الثورة. الشابي كان أقرب إلينا حتى من المرزوقي. وكان إخواننا في الداخل يعملون في صحيفة "الموقف" الناطقة باسم "التجمع الاشتراكي التقدمي" الذي أسسه الشابي ورفاقه. هذا فضلا عن أنني التقيت به لقاءات كثيرة، في بيتي في بريطانيا وخارجه.
عندما ألقى بن علي خطابه يوم 10 كانون الثاني/ يناير 2011، لاحظت أن الشابي تجاوب مع مضمون الخطاب، وأعلن في تصريح له عن استعداده للتفاعل إيجابيا مع وعود الرئيس الأسبق. ونظرا لعلاقتي الوثيقة بالشابي، خاطبته هاتفيا، وقلت له: أنت لك مستقبل سياسي، وهذا الرجل "طايح"، فلا ينبغي أن تقوم بدور شابور بختيار، زعيم المعارضة في زمن الشاه الذي دعاه إلى رئاسة الحكومة، في آخر لحظة فقضى عليه. كان واضحا لدي أن مرحلة بن علي انتهت، وأن الرجل سيسقط، بكل تأكيد. قال لي الشابي: إن مقارنته ببختيار خطأ، لأنه جاء بعد الوقت، فقلت له: من قال إنه ما زال ثمة وقت، الرجل انتهى، غير أن الشابي ظل رافضا هذه الحقيقة، ولم يتراجع عن موقفه. السياسي يمكن أن يخطئ، لكن لا يجوز له أن يتمسك بموقفه إذا اتضح له عدم صوابه.
كان هناك سوء تقدير للموقف من الشابي. ومن تلك اللحظة، ظهرت بوادر الاختلاف بيننا. وظل معارضا "النهضة". وحين دخل حملة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، دخلها بالخطاب الأيديولوجي نفسه الذي تبناه حزب "نداء تونس" فيما بعد، فقدم نفسه على أساس أنه يمثل الحداثة ونحن نمثل الرجعية، هو التقدم ونحن التأخر، هو الخير ونحن الشر، هو النور ونحن الظلام. وأحسب أن تلك الإستراتيجيا هي نفسها ما أضر بالحزب الجمهوري، وانتهت به إلى ما آلت إليه أوضاعه.
ومع ذلك، يبقى الشابي شخصية معتبرة في مسيرة النضال ضد النظام الدكتاتوري، وفي بناء الديمقراطية في تونس، إلى جانب دوره العام في نجاح الحوار الوطني.
وفي الخلاصة، أظن أن أهم درس نأخذه من تجربة "الترويكا" هو أن أسلوب الاستقطاب الثنائي، السياسي والأيديولوجي، لا يخدم مراحل التحول الديمقراطي، ولا يفيد الوطن، بل هو مهلك ومضر، فحين تكون الأوضاع هشة، يكون الأصلح للبلاد تغليب منطق التوافق لضمان التماسك وضمان القيام بالإصلاحات الكبيرة التي يقتضيها الوضع الانتقالي.
السبسي وتأمل البورقيبية من جديد
لعل علاقتي بالرئيس الباجي قايد السبسي، هي واحدة من التعبيرات عن هذه الرؤية. لا شك في أن ثقافتي السياسية كلها قامت على التناقض الجذري مع بورقيبة ومدرسته. لكننا، الآن، وصلنا إلى السلطة. والسلطة تقتضي تحولا في الاتجاه، لا أن نبقى معارضين إلى الأبد. تبحث السلطة عن توازنات، وعن أحلاف، وتصنف الخصوم على وفق مستويات متعددة. هنا، يضطر السياسي، ولا سيما إذا كان في الحكم، أو عندما يريد أن يكون في الحكم، إلى تنسيب مواقفه الأيديولوجية، ويحاول إيجاد مخارج للصعوبات التي تواجهه، حتى يتجنب الوقوع في تناقض المبدأ مع الموقف.
هذا فضلا عن أن السياسة تؤثر في الفكر، أحيانا، وتستدعي صاحبها إلى تبني فكرة معينة، كما أن الفكر يمكن أن يدفع نحو سياسة محددة؛ فالإنسان لا يطيق التناقض في نفسه، فإذا اتخذ موقفا سياسيا أملته عليه المصلحة، ولكنه متناقض مع قناعاته، فليس أمامه سوى العمل بأحد الأمرين، إما أن يتخلى عن تلك المواقف، أو يبحث عن أساس فكري ينسجم مع أرضيته الفكرية، ويبحث عن جذور لتلك المواقف السياسية. وهكذا، يجد رجل السياسة نفسه في حالة تفاعل مستمر بين الفكر والمواقف السياسية المتغيرة؛ مرة يؤثر هذا في ذاك، والعكس صحيح.
كان لقائي بالسبسي، منتصف سنة 2013، بالنسبة إلي وإلى قواعد النهضة، وحتى إلى شركائنا في الترويكا، صدمة كبيرة. أخذت على عاتقى أعباء هذا اللقاء، ورأيت أن مصلحة البلاد، أي مصلحة التحول الديمقراطي، تقتضي هذا الأمر. وبناء عليه، صممت على عدم تمرير "مشروع قانون تحصين الثورة"، وهو ما يقتضي أيضا إزالة حاجز السن عند الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. ومع أن هذا الحاجز كان معقولا، كنت أرى أن هذه التضحيات ضرورية، لوضع حد لحالة الاستقطاب الحاد التي توشك أن تطيح الوضع العام في البلاد.
صحيح أن مؤسسات "النهضة" رفضت، في ذلك الوقت، ما أقدمت عليه، وعارضت بشدة ذلك اللقاء، كما رفضت توقيع خريطة الطريق التي يتم بمقتضاها التنازل عن السلطة. ولكن رفضها لم يصل إلى حد الإعلان عن موقفها لدى العموم، لتسفه بذلك التوقيع الذي أقدمت عليه مع السبسي. ولو رفض مجلس الشورى ذلك الاتفاق، لكان أحدث أزمة عميقة في صلب الحركة. وهكذا، تحمل مجلس الشورى اللقاء، ووقعه، وإن على مضض. وهذا يدل على مستوى عال من الانضباط والتماسك داخل الحركة. وأظن أن هذا الأمر لو حصل في حركات أخرى لتمزقت صفوفها. لذلك، يحسب لأعضاء مجلس الشورى في "النهضة" ونخبة القيادات قدرتها على تحمل الاختيارات الصعبة، وعلى الاحتفاظ بالحد الأدنى من التماسك في مواجهة الصدمات الكبيرة. لكن السياسة تقدر دامها بنتائجها. وقد جاءت النتائج لتشهد بحكمة هذه المواقف؛ فلم تمر سوى بضعة أشهر حتى أصبحت تلك السياسة محل توافق عام داخل النهضة، ولم يعد أحد يرفض خط التوافق.
دائما ما أقول، لكل عضو من أبناء الحركة، إنه إذا ما وجد نفسه في موقع المسؤولية فينبغي له أن يفصح عن مواقفه أمام إخوانه، فإذا كان الموقف صوابا فإنه سيجد الدعم، وإذا كان خاطئا فينبغي أن يستقيل ويدفع الثمن. ولكن، ما لا ينبغي أن يحصل هو آن يتأخر الموقف عن وقت الحاجة، فتضيع مصالح كثيرة. وباختصار، على القائد السياسي أن يتخذ الموقف، ويتحمل بعد ذلك مسؤولياته كاملة.
لقد غير لقائي مع السبسي من موقفي من البورقيبية؛ فقد اختلف موقفي من تجربة الحركة الوطنية، وبورقيبة هو رمز للحركة الوطنية، وأدركت أنه لا يمكن أن نحكم دولة ونحن نرفض بالجملة مؤسسيها، وتاريخها، ورموزها.
لا يمكن إنكار دور بورقيبة والطبقة السياسية التي أسست معه هذه الدولة، ومع أننا لم نشارك في الحركة الوطنية، حيث كتا شبابا، نحن نعد أنفسنا امتدادا لهذه الحركة والحركة الإصلاحية التونسية.
إن هذه الدولة، بنظرة موضوعية، ليست شرا كلها. لقد كنا مستعمرين، وبفضل الحركة الوطنية أصبح لتونس دولة، هذا فضلا عن جملة الإنجازات التي تحققت في مجالات معروفة، المرأة والصحة والتعليم.
وما عدا ذلك، فلا شك في أن مجمل الاختلالات التي حصلت، على صعيد الحقوق والحريات السياسية يتحملها بورقيبة، هذا فضلا عن موضوع الهوية. وهي تحديات ينبغي الإقرار بها ومعالجتها، من دون تضخيم، ومن دون دفاع مجافي عن الذات، في الوقت نفسه. وفي الحقيقة، إن الثورة قامت على مثل هذه الاختلالات عندما اندلعت شرارتها الأولى.
إن الانتقال من بورقيبة إلى بن علي جرى عبر الانقلاب. والانتقال الثاني الذي أزاح بن علي جاء عن طريق الثورة. وهذان انقلابان حقيقيان في تونس؛ أحدهما قام به جنرال مستندا إلى جزء من الأجهزة الأمنية، والآخر فرضته إرادة الشعب. وها نحن، اليوم، نحقق الانتقال دون حاجة إلى ثورة ولا إلى انقلاب.
تجربة الإخوان المسلمين في مصر
كثيرا ما تجري مقارنة تجربة "النهضة" في الحكم في تونس بتجربة الإخوان المسلمين في الحكم في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، ولا سيما إن صعودهم السياسي تزامن مع قيادة "النهضة" حكومة الترويكا". وأظن أن المقارنة بين الحالتين التونسية والمصرية خاطئة؛ لأنها تقوم على افتراض وجود تشابه بين التجربتين، من دون تمييز خصوصيات كل تجربة، والتي فرضت عليها أن تسلك طريقا تختلف عن الطريق التي سلكتها الأخرى. أوضاع الإسلاميين ليست متشابهة، وليست نسخا متطابقة. كل تجربة تتفاعل مع وضعها الداخلي، بما تقدر أنه ملائم لها.
رأى بعض الكتاب، من جانب آخر، أن "الفرق بين تونس ومصر هو وجود الغنوشي" وفي هذا اختزال، فضلا عن كونه يقع في
تشخيص مخل. الأصل ليس اختلاف شخص واحد، بل اختلاف الوضع. وفي كل الأحوال، الإخوان المسلمون في مصر يعيشون الآن في محنة شديدة، ويتعرضون لإطلاق نار كثيف، وهم مظلومون، بالمنطق الديمقراطي، لأنهم أخذوا السلطة بالانتخاب، ونزعت منهم بانقلاب. وحري بكل من يعد نفسه دمقراطيا أن يقف إلى جانبهم.
للإخوان أخطاء، بكل تأكيد. ولكني لا أرى الوقت ملامها لتسليط الأضواء عليها. الوقت الآن، هو وقت مناصرة المظلوم، حتى يستعيد حقه. وبعد ذلك، يحق لأي كان أن ينتقده.
من الفوارق الأساسية بين التجربتين التونسية والمصرية، هو أن لكل دولة جيشها، ومصر جيش له دولته، بينما تونس دولة لها جيشها. والحمد لله.
الجيش هو صاحب السلطة الحقيقية في مصر. وقد حاول الشعب المصري أن ينتزع السلطة منه، ففشل. أما تونس فجيشها حمى الثورة، ورفض أن يلتقط السلطة حين كانت ملقاة على الأرض. وأكثر من ذلك، سعى الجيش في تونس إلى حماية الدمقراطية، في حين توافرت له، في الوقت نفسه، فرص حقيقية للانقضاض على الحكم. في سنة 2013، سنة الأزمة السياسية مع الترويكا، توجهت أصوات معارضة إلى الجيش، ودعته إلى تسلم السلطة. ولكنه لم يفعل. لهذا، أؤكد أنه ينبغي للتونسيين أن يحبوا جيشهم، لأنه ضمن الحماية لديمقراطيتهم الناشئة.
وإلى جانب هذا، تختلف المصالح والرهانات الدولية على مصر عن حجم المصالح والرهانات الدولية على تونس. من يغير مصر وسورية والعراق يمكنه أن يغير العالم؛ فهذه البلدان تقع في قلب العالم. ولكن، أيضا، من يطمح إلى تغيير مصر عليه أن يدفع الثمن.
ومع ذلك، أقول: إن ثورات الربيع العربي كلها كانت ناجحة، بما في ذلك مصر، على الرغم من كل ما حصل، وكل ما يقال.
يقول كثير إن تونس هي الاستثناء في نجاح التحول الديمقراطي. وهذا شرف لتونس، أنها أضاءت سماء المنطقة، ورسخت الإيمان بأن التغيير حق، وهو الأساس. ولكن، من يتابع الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة (تشرين الأول/ أكتوبر - كانون الأول/ ديسمبر 2015) يجد أن العفريت خرج من قمقمه، فلم يعد ثمة انتخابات 99%، ولا إعلام خشبي، ولا تسبيح بحمد الحاكم. هذه الأصنام كلها سقطت. وإذا كانت لا تزال موجودة، فالناس ينظرون إليها كما كان ينظر أهل مكة بعد فتحها إلى اللات والعزى. نزعت المهابة عن الدكتاتوريات، ولم تعد الشعوب، ومنها الشعب المصري، تقبل بانتخابات على طريقة مبارك. أشرقت الشمس الآن. واكتشف الناس أن هذه الأصنام لا تستحق أن تعبد.
ولذلك، من الخطأ أن نتصور أننا، نحن العرب، استثناء لا تطبق علينا قوانين الاجتماع التي تحكم مسار الثورات، وهو مسار لا يكون دائما مسارا تصاعديا، فقد يصعد، وقد ينزل، وقد يتراجع أحيانا. الثورة الفرنسية، مثلا، لم تحقق انتقالها إلا بعد 80 سنة، وعادت خلال ذلك إلى الملكية والإمبراطورية، وقطعت رؤوس الثوار، كما مرت الولايات المتحدة الأميركية بحرب قتل خلالها الملايين، واحتاجت تركيا إلى 80 سنة حتى تخلصت من حكم الجيش، وخلال ذلك، كم من انقلاب وقع، وكم من رأس قطع.
وإذا سمحث لنفسي أن أتحدث عن أخطاء الإخوان في الحكم، فأود أن أقول: إنهم أخطؤوا في قراءة موازين القوى، وهو الأمر الذي بسطت الحديث فيه آنفا، فمن الناحية الشكلية، دخل الإخوان الانتخابات وأخذوا السلطة، ومن حقهم أن يحكموا، ولكن هذا يمكن أن يحصل في عالم المثال، أما في عام الواقع فهو محكوم بموازين القوى التي لم تكن (وليست) في مصلحتهم. وأنا أعتقد أنهم استدرجوا إلى هذاالأمر، ولم يكونوا يفكرون أصلا في ممارسة الحكم. هذا فضلا عن أننا ينبغي أن نأخذ في الحسبان حسابات التنظيم وما أثاره ترشح عبدالمنعم آبو الفتوح الذي رفضه الإخوان بقوة. كانت حسابات التنظيم تدفع في سياق ما، في حين كانت موازين القوى في مصر تسير في اتجاه معاكس، ولم تكن هذه الموازين مستعدة لأن تسمح للرئيس محمد مرسي بأن يستمر في منصبه ويواصل قيادة البلاد.
ربما ظننا، في غمرة فعاليات الثورة، أن موازين القوى في مصر تغيرت بالكامل. والحقيقة، أن الثورة تحدث تغييرا، لكنها لا تحدث انقلابا جذريا. وعندما خالف الإخوان قاعدة التزام موازين القوى عوقبوا، وعوقبنا نحن أيضا، لأننا أخذنا في الترويكا أكثر مما كانت تسمح به موازين القوى التي لم تكن تسمح بأن نأخذ رئاسة الحكومة، ونتسلم جميع الوزارات السيادية والحقائب الأساسية. حصل ذلك في غمرة الحماس الذي طغى علينا في بداية المسار الانتقالي، ولكن موازين القوى سرعان ما رجعت تعمل من جديد. وهنا، أود آن أؤكد ما ذكرته آنفا، لو لم تنسحب "النهضة" من السلطة لسقط البناء فوق رؤوسنا ورؤوس الجميع، فموازين القوى لم تكن تسمح بذلك.
الانقلاب الذي حصل في مصر يوم 3 تموز/ يوليو زاد الطين بلة، ولم يعد بإمكان "النهضة" أن تواصل قيادة السلطة، إلا إذا كانت تريد أن تغامر بإدخال نفسها والبلاد في حرب أهلية. وقد يجر ذلك إلى تدخل الجيش.
لهذا أؤكد وأعيد، أن انسحاب "النهضة" من الحكومة كان ثمرة لقراءة جدية في التغيير الذي حصل في موازين القوى، في البلاد وفي المنطقة.
سلفيو تونس
ممكن أن تلام "النهضة" على سوء إدارة العلاقة مع السلفيين، بمن في ذلك من يتبنى العنف منهم. وهنا، أود أن أقول، بوضوح، إن هؤلاء هم النازلة الكبرى التي حلت بنا، مع أنني أظن أنهم يمثلون ظاهرة طارئة في المجتمع التونسي؛ فحين كنا ننشط في البداية، لم يكن هؤلاء موجودين، ولكنهم ظهروا في غيابنا، وهو ما يجعلني أؤكد أن هؤلاء هم ثمرة غيابنا عن الساحة الوطنية. ومن ثم، تتحمل سلطة بورقيبة، ثم بن علي، المسؤولية عن ظهورهم، فعندما جففت ينابيع التدين، وجرى القضاء على المرجعية التونسية للإسلام المتمثلة بجامع الزيتونة، ترك ذلك فراغا، ملأه هؤلاء، ولا سيما بعد ضرب "النهضة" وقمعها. حينها، كان التدين في أبسط أشكاله، كالصلاة، مصدرا لتصنيف الناس ووصفهم بالرجعيين والإرهابيين. وكنا، من المهجر، نتابع هذه الظاهرة الخطيرة. وكان يبلغنا أنه سمح لكتابات السلفيين والكتابات الشيعية بالدخول إلى معارض الكتاب، كما جرى تشجيع التصوف. كل ذلك على خلفية مقاومة تيار الاعتدال، وللدفع بالمتدينين نحو الابتعاد عن هذا التيار الذي تمثله "النهضة"، وهو ما جعلني أعتقد بأنه إلى جانب سياسة تجفيف الينابيع، تورط النظام السابق ومن معه في ما سميته "سياسة تلويث الينابيع".
وبعد أن تطور هؤلاء، وخرجوا عن الطوق، وهددوا الدولة، أدركت السلطة أنهم يشكلون خطرا عليها، ولا سيما بعد أن بدأوا يلتحقون بأفغانستان وبؤر التوتر.
اصطدم هؤلاء مع السلطة في وقت مبكر، وقاموا قبل الثورة، بعدة حوادث ووقائع، في تونس، أو جربة، أو سليمان، أو في الشمال الغربي، كما جرى الاعتداء على ثكنة للجيش من طرف جزائريين.
ونحن كنا نتابع هذه الأحداث من بعيد، وكنا نشعر بالشماتة في نظام بن علي، ككل معارض يتفاءل بأي واقعة سيئة تصيب النظام المعادي له، ويحاول أن يوظفها لمصلحته، وفي الحقيقة، كنا نريد أن نقول من وراء ذلك: انظروا ماذا حصل في غيابنا؟ كنتم تعالجون تدينا سلميا، حتى وإن كانت لديكم خلافات فكرية مع من يمثلونه، فإذا بكم اليوم تواجهون تدينا مسلحا.
عندما قامت الثورة، كان عدد هؤلاء يتراوح بين 2000 و3000 معتقل في السجون، وكان موقفنا مع الآخرين الذين طالبوا بإفراغ السجون من كل من اعثقل أو حوكم بسبب شبهة سياسية. وحقيقة، لم نكن معارضين ذلك؛ فلم يكن لنا سابق معرفة بأدبيات هؤلاء، فالحركات الإسلامية لم تنشأ لمواجهة طرف إسلامي، بل لمواجهة الماركسية والتطرف العلماني، وكانت هذه الحركات تثقف الناس لمواجهة الخصم العلماني الذي يهمش التدين ولا يحميه. الآن، ظهر خصم جديد، ليست لدينا به معرفة دقيقة، وعليه، أصبحنا مطالبين بالاطلاع على مخاطر هؤلاء، حتى نتمكن من مواجهة الظاهرة السلفية، وكذلك حركات التشيع.
الآن، بدآنا نثقف الناس، ليدركوا حجم المخاطر التي تواجه بلدنا. وقد حاولنا، في البداية، الحوار مع هؤلاء السلفيين، وعملنا على إغرائهم بالعمل السياسي (مثل المشاركة في الانتخابات، وإعادة بناء المنظومة السياسية، والتخلص من بقايا حطام النظام السياسي السابق). لكن محاولاتنا لم تكن موفقة؛ فبعض هذه الحوارات حرف وحول عن وجهته الحقيقية، وجرى تجريمه، على الرغم من أن الهدف من ذلك هو محاولة توعيتهم وإقناعهم بأهمية موازين القوى، ونهيهم عن مواجهة الدولة، بوصفها الأقوى، وعليهم أن يتواضعوا، لأنهم كانوا مصابين بغرور واضح.
وفي النهاية، نحن انخرطنا في السياسة، وهم ذهبوا إلى المساجد، وأنشؤوا جمعيات خيرية، وركزوا جهودهم على العمل الشعبي.
لم نتفرغ للشأن الديني. ولذلك، أصبح هذا الشأن متروكا للسلفيين.
ونظرا لكون هذه الظاهرة حديثة، ولم يتفطن لخطورتها أحد، أنجز هؤلاء مؤتمرهم الأول في عهد حكومة السبسي سنة 2011، ولم يعترض أحد على ذلك. يؤاخذنا خصومنا لأن أحد كوادر "النهضة"، وهو الصادق شورو، حضر فعاليات هذا المؤتمر. ولكنهم، في المقابل، لا يؤاخذون من سمح بعقد هذا المؤتمر.
بعد ذلك، عقد السلفيون مؤتمرهم الثاني في مدينة القيروان، سنة 2012، في عهد الترويكا. ثم حاولوا، في السنة اللاحقة تنظيم المؤتمر الثالث، مرة أخرى في القيروان، لكن حكومة الترويكا منعته.
وهكذا، لا تتحمل "النهضة" مسؤولية حقيقية في هذا الملف؛ فلماذا تتهم بالتواطؤ مع السلفيين، في حين أنها هي التي تجرأت على منعهم، لكونهم منظمة إرهابية، وقامت بتصنيفهم في عهد رئيس الحكومة علي لعريض؟ ومع ذلك، هناك من يريد أن يزج بالعريض في السجن، متهما إياه بالإرهاب، في حين أنه أول من بادر بمقاومتهم.
ما يجب أن يقال في هذا السياق إن حداثة نشوء هذا التيار العنيف في صفوف المجتمع التونسي هي التي جعلت النخبة التونسية لا تتنبه مبكرا لهذا الخطر ومناقشته. وإلى الآن، لا يزال الحوار معهم مجرما، وهذا أمر فيه مكابرة، ولا سيما إذا انطلقنا من أن ثقافة هؤلاء ضحلة، ومستواهم العلمي والديني ضعيف، ليس فيهم من هو خريج الزيتونة، كما أن ليس من أحد من قادة تنظيم "داعش" متخرج في جامعة الأزهر، أو الزيتونة، أو أحد المعاهد العلمية.
لا يمكن أن تكون إرهابيا إلا إذا امتلأت بعقيدة تكفير الآخرين، تصنف الناس على وفق ثنائية الخير والشر، والإيمان والكفر. ودارس العلوم الشرعية يدرك أن الفضاء الديني واسع، فيه اتجاهات ومذاهب كثيرة وآراء فقهيه متعددة، وهو يتضمن مقاصد للشريعة، وفيه محرم، ومكروه، ومباح. الفكر الإسلامي واسع جدا، والمكتبة الإسلامية يوجد فيها الغث والسمين. ومن هنا، تجد في تراثنا مختلف أنواع الآراء والمواقف.
السؤال الكبير الذي ينبغي أن يطرح في هذا السياق: لماذا تحركت بعض الآراء الشاذة التي كانت نائمة ويعلوها غبار كثيف وأصبحت فاعلة في الواقع وفي الناس؟
الجواب، من وجهة نظري، يكمن في أن المسلمين كانوا يعملون ما هو راجح ووسطي، إلى أن جاءت أوضاع اجتماعية وسياسية سيئة (قمع، واحتلال، وفساد اقتصادي، وحاجة اجتماعية)، أيقظت تلك الأفكار الشاذة، وأخرجتها من سياقاتها، ونزلتها على الواقع المعاصر، من دون وعي بالفوارق، وتريد اليوم أن تفرضها على المسلمين وعلى العالم بالقوة.
هذه الجماعات غريبة عن التراث الديني لتونس، وعن المزاج العام للتونسيين، وهي نشأت في ظل قمع شديد، وغياب للتدين المعتدل، وفقدان للحرية والديمقراطية. وقد لاحظ كثير من المراقبين في العالم الطابع السلمي للثورة التونسية وما حققه هذا الشعب المعتدل، ثم يتساءلون: "كيف أصبح هذا المجتمع أول مصدر للإرهاب في العام؟". أعتقد بأن هؤلاء يقفزون فوق حقائق الواقع؛ فهذه الظاهرة العنيفة ليست من منتجات الثورة، وإنما من منتوجات ما قبل الثورة. فعندما ثار التونسيون كانت السجون التونسية مليئة بهؤلاء، وهو ما يؤكد أن هذه الظاهرة هي من بقايا مرحلة بن علي والدكتاتورية، كما أن داعش والقاعدة هما من مفرزات دكتاتورية صدام حسين والقذافي ومبارك والأسد؛ فأول بذرة للإرهاب في العام العربي نشأت ونمت فيها كانت بلا منازع تلك السجون الرهيبة، مثل سجون مبارك[2] عندما كان القمع على أشده في زنزانات التعذيب. في تلك اللحظات العصيبة والظالمة، تساءل الشباب: هل هؤلاء الذين يعذبوننا مسلمون؟ فكان الجواب بلا، "لا يمكن أن يكونوا مسلمين". وانطلقت بذلك بذرة التكفير من هناك، من داخل الزنزانات المظلمة، وما يترتب على ذلك من استحلال للدماء، وهو ما تصدى له الإخوان المسلمون منذ البداية، وقالوا إن من يعذبنا ليس بكافر، وإنما هو ظالم، إنه مسلم، ولكن المسلمين مختلفون، هناك مسلم عادل، ومسلم ضال، ومسلم شرير. هذا هو المنطلق الأساسي لفكرة التكفير، ويقابلها المنطلق الأساسي لفكرة الاعتدال، وهكذا كان الرد على مرتكبي الكبيرة مما أنتج اعتدالا إسلاميا، بات يُعرف بـ "الوسطية الإسلامية"، مقابل تطرف الخوارج الذين كفروا بالذنب على أساس أنّ المسلم لا بد أن يكون نقيًا وألا يخطئ، وأيّ نقطة سوداء تخرجه من الملّة وتبيح دمه.
نحن والغرب
يمثّل الموقف من الغرب إحدى القضايا القديمة داخل حركة "النهضة"؛ ففي سنة 1974 ، أنجزتُ أوّل كتيّب، وكان بمعية المرحوم مصطفى النيفر، وبتقديم أحميدة النيفر، وحمل عنوان "نحن والغرب". كان الهدف من هذا الكتيب إعادة النظر في هذا التصنيف السابق للعلاقة بالغرب الذي قام على أساس أنّ الغرب يمثّل الشر، ونحن نمثّل الخير. وقد انتهينا، في ذلك الكراس، إلى تأسيس فكرة جوهرية، تقول إنّه كما أنّنا نحن المسلمين لسنا شيئًا واحدا، كذا الغرب ليس شيئا واحدا. الغرب بناء حضاري مترامي الأطراف ومتعدد المدارس، في حين أنّ الحكم عليه جعله نقطة واحدة، اختزلته في الاستعمار والتحالف مع إسرائيل والإمبريالية والاستقلالية الاقتصادية. وهذا ليس عدلً. هذه حضارة، ولو كانت كلّها شرًا لانتهت مبكرا. لماذا سقط الاتحاد السوفياتي بهذه السرعة؟ لأنّ تباينه مع سنن الاجتماع كان أكبر، في حين أنّ الغرب كانت لديه حضارة متعددة الألوان والمشارب.
يعبر المجتمع الأميركي عن هذا التنوع من خلال فكرة اللوبيات؛ فهناك جماعات الضغط متعددة، وكلّ جماعة تضغط في اتجاه بصورة واضحة، وداخل كلّ اتجاه صراع مصالح وصراع أيديولوجيات وأفكار. ولذلك، يمكن لك في الغرب أن تجد مكانًا لتدافع عن فكرتك، وأن يكون لك أنصارا لممارسة التقنيات نفسها، يسلكون معك المعابر نفسها.
حتى الإسلام نفسه له مستقبل في الغرب، سواء الغرب الأوروبي، أوالأميركي. والمسلمون هناك بصدد تكوين نخبة جديدة، على الرغم من أنّ الإرهاب يشوّش عليهم ويعرقل عملهم، فأحداث 11 أيلول/سبتمبر أخّرت المسلمين في أميركا ما بين 10 و 15 سنة، بعد أن بلغوا درجة المشاركة في الانتخابات الرئاسية والتأثير فيها. جاءت أحداث11 أيلول/ سبتمبر فنقلتهم من موقع التجديد والتطور إلى موقع المحافظة على البقاء والدفاع عن الوجود.
لقد كوّن المسلمون هناك، رصيدا مستقبليا، ولهم الآن حلفاء يساعدونهم على فكّ العزلة من حولهم. وقد أصبحوا يشكّلون معطى أساسيا ضمن المعادلات السياسية الغربية. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى تأثير الجاليات الإسلامية في نتائج الانتخابات المحلية داخل عديد البلدان الغربية. وهذا يعني أنّ الغرب، على الرغم من كلّ سلبياته، فضاء مفتوح يمكنك أن تؤثّر فيه وتتأثر به.
هناك أشياء كثيرة يمكن أن نتعلّمها من الغرب، ولو كانت الحضارة الغربية سوءًا محضًا لما دامت كلّ هذا الوقت.
يتمتع الغربُ بمصادر قوة كثيرة، وإنّ سيطرته على العالم ليست كلّها مبنية على القوة العسكرية. هناك قوة ناعمة للغرب، تتمثّل باكتشافه السنن العلمية، إلى مستوى عالٍ من الحريات، ومن العدل في القضاء، والصحافة الحرة، والتشجيع على الابتكار والنبوغ في معظم المجالات.
إنّ ما فعلناه نحن، إلى الآن، هو بداية اكتشاف الغرب والتعامل معه بواقعية وبنظرة بعيدة عن الأيديولوجية الاستقطابية التي تصنّف الناس إلى أبيض وأسود. والحقيقة، أنّنا وجدنا أنصارًا في مهاجرنا، وأصبح لنا أصدقاء اكتشفونا واكتشفناهم. والآن، هناك تجربة تونسية تحظى بدعم الغرب. ويجب الاعتراف بأنّ التجارب التي تتمتع بدعم غربي قليلة جدا. ومن أسباب ذلك طريقة تعامل الحركة الإسلامية في تونس مع الغرب، هذا فضلاً عن أنّ تونس تخوض تجربة فريدة على هذا المستوى، والتي تتمثل بالبرهان الذي قدّمه التياران العلماني والإسلامي، واللذان تصارعا لأكثر من خمسين سنة، بأنّهما يمكن أن يتعايشا.
ولكن، في المقابل، يمثّل الإسلام مشكلة للغرب. وإلى الآن، يبحث الغربيون عن كيفية للتعامل معه. وفي هذا السياق، تقدّم تونس مثالا مغريًا. قال أحد الساسة الفرنسيين: إنّ تونس تقدّم النقيض لداعش. ولهذا، نحن نقول إنّنا لسنا حزبا سياسيًا، بقدر ما نحن مدرسة في الفكر وفي العلاقات الدولية، تقوم على فكرة التوافق، وليس الصراع والتناقض. نريد أن نثبت أنّ الإسلاميين قادرون على التعايش مع غيرهم. وهذه فكرة جديدة تنطلق من أنّ الإسلام لا يمكن استبعاده، وأنّه يمثّل عاملا إيجابيا في العلاقات الدولية، ولا يتعامل مع الآخر من موقع المحارب والمغاضب، وأنّ "النهضة" تمثّل صورة الإسلام المعتدل، المتعايش مع الآخرين، الديمقراطي، الإسلام الذي يراهن على أنّ العلاقات الدولية تقوم على السلم، وليس على العنف والحرب.
دستور تونس الجديد هو تجسيد لهذه الرؤية
كان الدستور تعبيرًا عن كلّ هذه الرؤى. وعلى الرغم من كلّ الجدل على موقفنا من نص الدستور وعلاقة ذلك بالهواجس الإستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي، أود أن أقول إنهّ لم يرد في نص الدستور ما هو مرفوض مبدئيًا بالنسبة إلينا . نعم، ليس كلّ ما ورد في الدستور يعبّر عمّا كنّا نريد أن يتمّ التنصيص عليه، ولكن لا يوجد في الدستور ما يناقض ما نعتقد أنّه أساسي.
فمثلا، تخلّينا عن جزء من النظام البرلماني، بعد أن كان اختيارُنا المبدئي واضحًا منذ البداية، وأعني بذلك دفاعنا القويّ عن النظام البرلماني، وهو اختيار ما زلت أعدّه الأصلح لتونس، غير أنّ موازين القوى لم تكن تسمح بأكثر ممّ سمحت به. وإذا أردنا أن نقارن، هنا، ما فعلناه نحن بما فعله الإخوان المسلمون في مصر، فإنّ الدستور الذي وضعوه لم يخضع إلى منطق التوافق، بل إلى منطق الأغلبية. ولذلك، لم يحصل إلا على % 63. وبمعنى ما، كان دستور 2012 دستورًا للإسلاميين، من إخوان، وحزب النور وسلفيين. وكان يمكن لنا في تونس أن نشكّل تحالفا مماثلاً، وأن نصدر دستورا من هذا القبيل، ولكنّنا اخترنا مبدأ التوافق، وتخلّينا عن كلّ ما لا يحقق التوافق، من قبيل "الشريعة". وهو مفهوم ملتبس وحمّال أوجه، وكلّ ما فيه التباس هو مصدر اختلاف. ولذلك، قلنا إنّه ينبغي أن يخرج من الدستور. صحيح، كان هناك تمسّك من الحركة بالتنصيص على الشريعة في الدستور، لكن أنا دافعت بقوة في مؤسسات الحركة عن الاكتفاء بإدراج الإسلام، لأنّه يتضمن الشريعة التي ليس فيها معنى زائد. ومن ثم، اكتفينا بما هو محلّ توافق.
نحن أردنا أن نصل إلى دستور لكلّ التونسيين وليس دستورا لجماعة "النهضة". وهو المنطق الذي ساد بيننا، بحيث اتفقنا على عدم وجود سلطة دينية في تونس تحتكر تفسير الإسلام وتكون أعلى من البرلمان، وعليه، رأينا أنّ البرلمان هو السلطة التفسيرية التي يجب اعتمادها بوصفها السلطة التي تقنّن، وبحسب نوعية الثقافة السائدة في البلاد سيعبر عنها البرلمان.
لا نريد أن نفرض على برلماننا ولا على نخبتنا ما ليس هو محلّ وفاق بيننا، لأنّ ذلك فيه نوع من التعسف وشكل من أشكال الاستعجال الذي لا فائدة فيه.
عشت في بريطانيا أكثر من عشرين سنة. ورأيت كيف تدار العملية الديمقراطية في ظل غياب دستور أصلاً. لهذا، اقتنعت بأنّ تشبّثنا بالعبارات أمر مبالغ فيه. قلت للإخوة إنّ الدساتير العربية كلّها فيها مصطلح الشريعة، إمّا بوصفها المصدر الأساسي أو المصدر الوحيد أو المصدر الرئيس، فهل منع ذلك الظلم؟ وهل حال التنصيص على الشريعة دون قيام الثورات في هذه الدول؟ فلماذا تتمسكون بالعبارات والألفاظ، وكأنّ فاعلية الإسلام مرهونة ببعض المصطلحات؟ حتى لو افترضنا زالت كلمة الإسلام فلن يمثّل ذلك مشكلاً، المشكل يكمن في مستوى الوعي والثقافة العامة السائدة في المجتمع التي تبقى هي مصدر التشريع. لذلك لا بد أن يكون حرصنا الأشد على ضمان الحريات التي تتيح لنا تثقيف الناس ورفع وعيهم بالإسلام الذي نريد. فإذا ضمنّا الحرية الآن، فإنّ ما لم يفهمه الناس حاليًا سيفهمونه غدًا، والنخبة المشرّعة ستعكس ذلك في اختياراتها والقوانين التي تصوّت لها، فلماذا الاستعجال إذن؟
من حوار أجراه معه صلاح الدين الجورشي، سياسات عربية، العدد 18، كانون الثاني/يناير 2016.
[1] يبدو هناك خطأ في السنوات إذ المقصود سنتي 83 و84 حيث أنه أطلق سراحه في صيف 1984 ( منظار).
[2] يبدو أن المقصود هو سجون عبد الناصر وليس سجون مبارك أين بدأت أفكار التكفير تظهر في صفوف بعض مساجين الإخوان (منظار)