سياق الحدث
مرت منظومة الحكم لثورة 17/14 منذ أول انتخابات في نهاية 2011 بثلاث مراحل تداولت فيها على السلطة بالبلاد قوى سياسية حاملة لمشاريع حكم مختلفة في علاقتها بالثورة وعلاقتها بالديمقراطية وعلاقتها بالنظام القديم وبالنهضة.
أولا : حكم الثورة
تشكل حكم الترويكا من فريق من جماعة 18أكتوبر (النهضة والمؤتمر والتكتل)، حيث تم استبعاد النظام القديم، رغم أن أحد رموزه المخضرمين المعتدلين قاد البلاد صبيحة الثورة سنة2011 إلى أول انتخابات نزيهة في تاريخ البلاد، وكان يتوق إلى أن يجازى بمنحه رئاسة الجمهورية.
ولو حصل ذلك لانتفى المبرر المباشر لعودة النظام القديم، سواء كان في شكله المعتدل “النداء”، فما كان للباجي من هدف من تشكيله للنداء غير الثأر من اقصائه ومنعه من الوصول إلى قرطاج، أم كان في شكله الفاشي، ممثلا في الدستوري الحرّ..
المهم، إن عودة النظام القديم إلى الساحة سنة 2012 أربك المشهد وأطاح بموازين القوى ليس لصالح قوى الثورة، قوى 18 أكتوبر2005 التي فشلت في تجميع صفوفها وأقامت تحالفات غير مبدئية، لا سيما في ظل الزلزال المصري صائفة 2013، الذي أطاح بموازين القوة، ليس لصالح ثورات الربيع وإنما على الضد منها بالكامل، الأمر الذي أدخلها في حالات خطيرة من الفوضى والردة والعنف، بما فسح مجالا واسعا للإرهاب ولتوظيفه من قبل القوى الاقليمية والدولية ضد الربيع العربي، بل للإجهاز عليه.
في ظل تلك الأوضاع بادر رباعي المجتمع المدني إلى الدعوة للحوار، وقبل زعيم النهضة ما كان قد رفضته الحركة أول السنة من حضور حوار وطني يشارك فيه النداء رمز النظام القديم، كما قبل اللّقاء مع الباجي، بما أفسح المجال إلى أن يجلس الطيف السياسي بكل انتماءاته عدا “المؤتمر” حول طاولة رباعي المجتمع المدني.
وأفضى الحوار إلى التوافق على خارطة طريق، من مقتضياتها انسحاب النهضة من الحكومة ورئاستها، مقابل تحقيق كسب للبلاد هو الدستور، وذلك باستئناف البرلمان المعطل القيام بدوره، وكان قد عطله رئيسه، فتوقف عن كتابة الدستور، إذن مطلوب منه الآن اتمام المهمة، بتضحية تقدمها النهضة، فكان الأمر عبارة عن صفقة بين النهضة وبقية الطيف السياسي خلاصتها: فُكّوا سراح البرلمان وامنحوا البلاد دستورا نعطكم الحكم ونذهب لانتخابات. لقد كان مغنم النهضة الوحيد من الحكم، القلم الذي وقّع به رئيس حكومتها على الدستور وهو شرف لن ينزعه منها أحد. ومعناه أننا في لحظة ولادة تونس الجديدة، كنا هناك.
ثانيا: ولادة حكم التوافق
حقق الباجي الدستوري المعتدل أو الدستوري الديمقراطي، المتحول من أرض نظام الفرد والاستبداد إلى الديمقراطية، في انتخابات 2014، انتصارا باهرا حل به محل النهضة القوة الثورية الأولى في البلاد.
الغنوشي: تونس تمتعت خلال مرحلة التوافق بحظوظ من الاستقرار والحريات جعل منها أيقونة الديمقراطية بينما كان الربيع العربي يحترق
لقد انتصر علينا في ثلاث انتخابات متتالية: الرئاسية الأولى والتشريعية والرئاسية الثانية، وبلغ به الإعجاب بالنفس حد استئثار حزبه بالرئاسات الثلاث حتى أنه استكثر على النهضة التي قبل منها مشاركة جزئية، استكثر عليها طلبها في أن يضيف إلى ما خوّلها من وزير واحد وثلاث كتابات دولة، أن يضيف لها كتابة دولة رابعة، فغضب، وأشار على قطار حكومة الصيد أن يقلع بدون النهضة، ولكنه سرعان ما استعاد رشده واستجاب لطلبها الزهيد، بما يضمن لحكومته قاعدة برلمانية واسعة.
وكان الأهم عند النهضة من حجم المشاركة، المشاركة ذاتها، بما ترمز إليه من تجاوز لصراع مدمّر بين الاسلام والحداثة، وبين الاسلاميين والدساترة، وطي صفحة الاستقطاب التي أرهقت البلاد والتأسيس لتاريخ جديد من التوافق بديلا عن الصراع والتنافي.
مرحلة جديدة هي مرحلة التوافق، عاشت البلاد في ظلها أطول مدة من الاستقرار منذ الثورة خمس سنوات، كتبت خلالها دستور الثورة ومنظومة من المؤسسات الدستورية ونجحت في التصدي للإرهاب الذي ضرب العالم كله وكانت ليبيا الجارة الأقرب مسرحا له.
لقد تمتعت تونس خلال مرحلة التوافق بحظوظ من الاستقرار والحريات جعل منها أيقونة الديمقراطية في العالم فتوجت بجائزة نوبل وجائزة “تشاتم هاوس” الانقليزية للرئيس المرزوقي والغنوشي سنة2013 وجائزة “فورن بوليسي” الامريكية، وجائزة غاندي للسلام الهندية وجائزة ابن رشد الالمانية، للغنوشي، بينما كان الربيع العربي يحترق ويتلظى بالفتن.
ثالثا: مرحلة الشعبوية
ولكن ولئن حققت سياسة التوافق استقرارا ديمقراطيا للبلاد في محيط اقليمي متفجر واستبدادي ومحيط دولي لم يعد ملائما ولا سيما بعد انفجار عدد من الشعبويات في أكثر من مكان في العالم، انطلاقا من أكبر دولة في العالم الولايات المتحدة وفي جوارنا الايطالي. ولأسباب كثيرة كانت انتظارات جمهور الثورة في التنمية عالية لم تسعف حكومات الثورة في تحقيقها أمام الخبرة المحدودة للحكام الجدد وأمام ضغوط النقابات وصولة الاعلام والاوضاع الاقليمية المضطربة، ما هيأ الناس لتقبل الخطابات الشعبوية، نكوصا عن الثورة ومنجزاتها وتبشيرا بالأوهام، مع أن الانصاف للثورة يفرض التذكير بعشرات المليارات من الدينارات التي انفقتها حكومات ما بعد الثورة في مجالات التنمية وتشغيل عشرات الالاف من الشباب واسعاف عشرات الآلاف من العائلات المعوزة.
ولقد أعان على تعثر برامج التنمية إلى جانب الارهاب دخول الجارة الأقرب، ليبيا في حرب أهلية طاحنة كان أبرز زعمائها لورد حرب شعبوي طموح ومغرور، انتهى زحفه المدعوم من القوى المضادة للثورة إلى محاصرة عاصمة بلاده الواقعة على حدودنا، والتي تعتبر استراتيجيا الخط الأول للدفاع عن تونس، وكانت كل القوى السياسية في البلاد تُسبح بحمده وتستعجل انتصاره النهائي، ولم تشذّ عن ذلك غير النهضة.
وقد حققت سياسة التوافق في ظل هذه الأوضاع المتفجرة مكاسب عظيمة، أهمها المحافظة على شمعة الحرية والثورة وضّاءة، بما مكّن لجيل كامل من شباب تونس أن ينشأ في ظل الحرية، بما سيُحصّنه من كل محاولة لعودة الاستبداد بعد أن تنفس حرية وذاق طعمها لعشر سنين، بما يجعل صعبا استتباب الأمر للانقلاب وللثورة المضادة.
واهم من يظن أن هذه العشرية من عمر الثورة ذهبت هدرا بالانقلاب عليها. كلا، لم تذهب سدى، ولكنها بالتأكيد لم تحقق كل أهداف الثورة، وهل لدارس لتاريخ الثورات أن يصدق أن الثورات تحقق أهدافها دفعة واحدة وفي سنوات معدودات، أو أن مسيرتها تمضي صعدا لا تتوقف ولا تنتكس؟ كلا بل قد ترتدّ إلى أشنع ما كانت عليه الأمور قبلها لكنها وبعد تقلبات شتى في النهاية تنتصر بإذن الله.
كما مكنت عشرية من الحرية أجهزة الدولة: الادارة والجيش والقضاء والأمن، من تشرّب ثقافة دولة القانون فلا تطبيق لأمر دون أثر كتابي، واليوم يقف الجهاز القضائي مثلا، باقتدار، في وجه أعلى سلطة تنفيذية رافضا تنفيذ توجيهاتها.
ومنتظرا أن تفعل مثل ذلك بقية أجهزة الدولة إذا أمعن الانقلاب في تحدي الدستور والقانون..
نعم لم تحقق ثورتنا أهدافها الاجتماعية في ظل هجمة الثورات المضادة والاوضاع الاقليمية غير المناسبة إلى جانب حداثة خبرة رجال العهد الجديد. وفي إطار منوال تنموي لم يتعرض لتغيير مستوجب.. وكل ذلك قابل للاستدراك مع أنه تم استغلاله لترسيخ فكرة فشل الثورة والتأليب على أحزابها، وخاصة الحزب الأكبر الذي قاد مع غيره عملية الانتقال الديمقراطي خلال عشرية الثورة، التأليب الذي تجاوز التجريم إلى الشيطنة المطلقة من أجل الاجهاز على الثورة بالإجهاز على التوافق الضروري بين الجناحين الرئيسين للحركة الوطنية، الاسلاميين المعتدلين والحداثيين المعتدلين، التوافق بين الاسلام الديمقراطي وبين الدساترة الديمقراطيين أو العلمانية المعتدلة بقيادة الباجي والغنوشي والتي حكمت البلاد أطول فترة في الثورة انتهت بوفاة الباجي ونهاية حزبه الذي لم يكن متحمسا لتلك السياسة بين انتهازي واستئصالي، كما لم تكن تلك السياسة محل حماس الكثيرين من النهضويين. وجاءت انتخابات 2019 لتمثل منعرجا كبيرا فيما وصلنا اليه، منعرجا نقل البلاد من حكم التوافق إلى المرحلة الشعبوية.
إن الزلزال المصري في قلب المنطقة كان ولا بد أن تنعكس ارتداداته المدمرة على جملة الاقليم مدعوما بشعبوية ترامب في الدولة الأعظم وبالمال والسلاح والاعلام الخليجي من أجل اطفاء الشمعة التونسية الوحيدة في الظلام العربي، ودفع الاقليم إلى تحارب أهلي أو إلى فوضى عارمة فيما تبقى من ربيع عربي يترنح تحت وطأة الازمة الاقتصادية والسياسية.. كل ذلك ولد الطلب الشعبي على الشعبويات إطلاقا لموجة عارمة من الأوهام.. فكانت شعبوية قيس سعيد وعبير..
رابعا : انتخابات 2019
نحن في النهضة دخلنا انتخابات 2019 وصفّنا مصاب بالتمزق والتجاذب، لا حول سياسات اقتصادية واجتماعية، فقد مرت اللوائح التي تخص هذه المجالات بسرعة البرق وإنما حول طريقة تشكيل المكتب التنفيذي.
دخلنا الانتخابات دون رؤية واضحة للمستقبل تلاحقنا حملات إعلامية مغرضة حول علاقتنا بما يسمى الجهاز السري والتسفير والعنف والثراء!!
كنّا نأمل أن تسبق الانتخابات التشريعية حتى نستبين وزننا: هل نكون قد أخذنا نصيبنا، فنكتفي ونعطي أصواتنا في الرئاسية لصديق؟ أم سنحتاج إلى مرشح منا؟
ولأن لجنة الانتخابات قررت أن الدورة الأولى ستكون للرئاسية ولم يكن لنا بعد مرشح، ورئيس الحركة في الوضع الطبيعي للأحزاب هو المرشح لهذا المنصب، ولكن في حالنا الأمر مختلف بسبب الاختلاف حوله، فبادر بنفسه إلى ترشيح أحد إخوانه ورفيق دربه، الشيخ عبدالفتاح مورو، فكان اجماع الشورى عليه.
وعلى عجل دارت “الماكينة”، وخاضت الحركة ملحمة الانتخابات بهمة عالية، إلا أنها بسبب تأخر انطلاقتها وضعف التقاطنا لنبض الشارع الذي كان سقفه الراديكالي عاليا مع دخول موجات شعبوية عاتية متجاوزة كل أفق وسطي أو توافقي، كل ينشد الحق المطلق ويشيطن خصومه قيس، عبير، الكرامة، اليسار.. ورغم أنها فازت بالسبق على كل منافسيها إلا أنها لم تحصل على أغلبية كافية بل تراجع عدد ناخبيها.
وعلى الرغم من تراجع الأصوات المؤيدة لنا فقد وفقنا الله إلى استعادة مكانتنا في تصدر المشهد مجددا، المكانة التي فقدناها في انتخابات 14، ولكن هذا الأمر وضعنا بين خيارين إما الذهاب إلى القصبة ونحن متهيبون من حمل هموم البلاد على ظهورنا مرة أخرى في ظروف عصيبة من التدهور الاقتصادي الذي خلفه لنا تحالف غير موفق مع الشاهد إلى جانب الوضع الاقليمي المشتعل فتنا.
أو الذهاب إلى منصب سيادي مهم وأقل كلفة هو رئاسة المجلس، إذ ليس مقبولا من الحزب الأول أن يكون بعيدا عن أحد مواقع السيادة الثلاث، فكان ترشحنا لرئاسة المجلس بدعم من قلب تونس مقابل دعمنا لمرشحته للنيابة، والجدير بالملاحظة أن التحالف مع قلب تونس لم يكن محل إجماع بين قواعد النهضة وجمهورها.
أما على الصعيد الحكومي فقد عاد التجاذب بيننا: فريق يسعى إلى استئناف سياسة التوافق مع امتدادات النداء من الدساترة المعتدلين المنحازين إلى قلب تونس مقابل انحياز متطرفيهم إلى الحزب الفاشي. ولم يكن هناك اطمئنان إلى التحالف مع أحزاب استئصالية كحركة الشعب أو يغلب عليها ذلك، دون رفض قطعي لذلك، بل قامت محاولات قدمنا فيها كل التنازلات المطلوبة، ولكن لم ينقطع قط كيد البعض لنا حتى عندما كنا في حكومة واحدة سواء في زمن الترويكا أو في حكومة الفخاخ .
وفي هذا السياق جاء اختيار الحركة غير الموفق للأسف للحبيب الجملي لرئاسة الحكومة. فقد فشل في تشكيل أغلبية حوله بفشله في التفاوض مع قلب تونس لأقناعه بالمشاركة في حكومته، وكان واضحا جليا أن حكومته ستسقط لأنه لا نجح في التفاوض مع القلب ولا الأصدقاء “الثوريون” منحوه ولو صوتا واحدا رغم كل التنازلات التي قدمها لهم.
بينما لم يتخلف من نواب النهضة أحد عن دعم حكومته، عدا زياد العذاري. فهل بعد ذلك يجرؤ منصف على ترويج اتهامات ظالمة عن اخوانه أنهم مارسوا الازدواجية والخداع!! فأعطوا اصواتهم للجملي، لكنهم مارسوا ضغوطا على قلب تونس ليمتنع عن دعمه له !!، هذا من قبيل التفسير التآمري للتاريخ وترويج ما لا أساس له من الحق، وما من شأنه أن يشيع الريبة والظنون في الصف.
وهكذا فشلنا في إدارة الفرصة التي أعطيت لنا فالتقطها قيس، فاختار من بين قائمة من السياسيين الذين يتمتعون بدعم أوسع الأحزاب، اختار أقلهم شعبية، الفخفاخ الذي كان تحيزه واضحا لحزبي الرئيس (الشعب والتيار) وكان مغرورا، لا يتردد في التصريح بعدم مبالاته بِنَا ونحن أقوى حلفائه.. وأهم من ذلك رفضه لتحقيق الانسجام بين الأغلبية البرلمانية والاغلبية الحكومية، وكان من الطبيعي أن يفضي ذلك إلى سقوط حكومته لافتقادها لأغلبية برلمانية دون قلب تونس.
ومرة أخرى يقفز قيس على المبادرة فيستعيدها، ومرة أخرى يخطئ في الاختيار. إذ اختار آخر مرشح في القائمة، وما لبث أن اختلف معه، وقرّر الاطاحة به قبل عرض الحكومة على البرلمان بساعات، واستعان بِنا، فرفضنا المغامرة وفضلنا دعم من رشحه ثم تخلى عنه، على الزج بالبلاد في الفراغ، وهكذا ولدت حكومة المشيشي ولادة قيصرية نصفها من مرشحي الرئيس ونصفها من اختيار رئيس الحكومة، ثم أخذ هذا الاخير يتخلّص من وزراء الرئيس من خلال اجراء تحويرات وزارية رفض الرئيس الاستجابة لها بما ترك الحكومة مشلولة وراهن على اسقاطها وراهنا نحن على اجازتها ولو بالأمر المستحيل، وأحسب أن ذلك كان خطأ منا فالدولة بكل أجهزتها لا تؤدي وظيفتها باقتدار إلا بتحقق الانسجام بين دواليبها لا سيما مع رئيس منتخب متمركز جدا حول ذاته، المطلوب ليس مغالبته وإنما كما قال نائب في البرلمان الاوروبي مناصر للديمقراطية: أعينوه على نفسه.
خامسا: حكم العسكر
إن الشعبوية التي أثمرها الأداء الضعيف الاجتماعي والاقتصادي لحكومات الثورة، وما تعرضت له من ضغوط اعلامية ونقابية، إلى جانب عوامل اقليمية ودولية كثيرة تعاونت على إسقاط نهج وحكومات التوافق، وهو ما خلّف تمزقات وانقسامات واستقطابات نشرت الفوضى الممنهجة في البرلمان وفي المجتمع، مما سمم الرأي العام ضد السياسة والسياسيين والأحزاب والبرلمان بتحريض شديد من قبل الرئيس، الأمر الذي ولد طلبا متزايدا على التغيير. وزادت الطين بلة الجائحة التي فشلت حكومة التكنقراط الضعيفة، حكومة المشيشي المدعومة من حزام سياسي ترأسه النهضة، وكان للرئيس إسهام معتبر في الأزمة السياسية والصحية والاقتصادية.
فكانت قرارات 25/07 الصاعقة وما تلاها من قرارات 22/09 إعلانا عن انتصار الشعبوية في مواجهة الثورة، وقد يمثل ذلك أيضا بداية النهاية لها ولمؤسساتها، ولكنه يُخشى أن تكون بدايات تمهّد لحكم العسكر على نحو أو آخر، خلافا لما جرت عليه الأمور بتونس الحديثة.
سادسا: حيثيات الكارثة
أ- لقد أقام الله سبحانه نظام الكون والمجتمعات على الربط بين الاسباب ومسبباتها، فلم تأت 25 جويلية صدفة بل إن لها مقدماتها الضرورية: رئيس حكومة ضعيف محاط بشرنقة من أصحاب المصالح لا تهمهم غير مصالحهم، فغابت إرادة القرار واليقظة وغابت المسؤولية وغاب الانجاز، والمثال الأبرز والكارثي تعاملهم مع الجائحة المتنمرة بالمماطلة واللامبالاة ، فلا هم أعدوا اللّقاحات ولا التجهيزات الكفيلة بخوض الحرب على الجائحة بكفاءة بما مثّل فضيحة وتقصيرا شنيعا في حق الشعب، حتى احتلت تونس ذيل الدول الفاشلة في الحرب على الجائحة وعدد الضحايا.
ب – مركز رئاسي قوي مصمم على التعطيل والاطاحة بالحكومة والانفراد بكل السلطات. إلا أنه ومهما بلغ الحاكم المتفرّد من العبقرية لن يُفلح، وما ينبغي الاستسلام له.
ج- حزام سياسي رخو لم يستطع لا حمل الحليف على الانجاز ولا حتى تهديده جديا بسحب الثقة، مما أغراه بمواصلة سياسة الإهمال وعدم الجدية إلى حدّ العبث، حتى آل أمر البلاد إلى حال من الشلل شبه الكامل، وليس ذلك غريبا على الأحلاف الحكومية فهي عادة ضعيفة ورخوة.
د – في الحقيقة كان كل شيء يدعو إلى التغيير والخروج من الوضع الذي تردت فيه البلاد ولكن الشركاء وهم كثر، وبعضهم وخاصة كتلة الاصلاح شديدة الارتياح للوضع القائم، فلم نملك نحن الشركاء الجرأة على اتخاذ قرار المغادرة ولو من طريق سحب الثقة من تلك الحكومة الميتة أصلا بعد أن فرض عليها قيس الشلل بتعطيله للتحوير كتعطيل للمحكمة الدستورية، بل إن آخر دورة لمجلس شورى النهضة قبل الانقلاب، قرّر مواصلة دعم المشيشي بنسبة 90%، دلالة ذلك على ضعف في وعي النخبة وارادة القرار.
سابعا: دروس 25 جويلية (يوليو) 2021
أ- يوم 25 /7 جاء ت قرارات سعيد بالإضافة في وقتها مستجيبة معبرة عن ارادة شعبية صادقة متعطشة إلى التغيير، ضائقة ذرعا بالحكومة وحزامها السياسي، فكانت من قبيل ما يجب فعله ممن له المسؤولية وأساسا رئيس الحكومة، فإذ لم يفعل فواجب حزامه السياسي أو الحزام الداعم لها، ولم يفعلا، فجاءت اجراءات الرئيس وكأنه يفتح قناة أكسيجين في أجواء مختنقة بالكوفيد، الأكسيجين الذي عجزت عن توفيره حكومة المشيشي للمختنقين، وهكذا عندما يتأخر عن الفعل الإنقاذي الواجب ممن يجب عليه القيام به، يغدو مشروعا بل واجبا على غيره.
ب- ليس هناك ما يشهد على أن رئيس الدولة له انتماء من قريب أو بعيد للاستئصال، ولكن لا يخلو محيطه من أصحاب مصالح بل حتى استئصاليين خصوم للمنزع المحافظ، بما يفرض الحذر من دفعه إلى التورّط في توظيف شعبيته في التخلّص من خصومهم.
ثامنا: ما العمل وقد حصل ما حصل؟
أ-سياسيا وليس بالضرورة إعلاميا ما حصل انقلاب كامل الأوصاف على الدستور وعلى الثورة تمّ الاعداد له، ويترجم رؤية بشّر فيها الرئيس بنظام سياسي غير ما جاء به دستور الثورة، نظام مجلسي جماهيري لا مكان فيه لمؤسسات وسيطة من برلمان وأحزاب ومحكمة دستورية.. هي علاقات مباشرة بين قائد وشعب، هناك سلطة واحدة سلطة الرئيس، حيث تتمركز فيها كل السلطات.
ب- الجدير بالملاحظة أن قيس سعيد، كما أشرنا سابقا، لا يقف على نفس الأرضية الثقافية لكثير من مشايعيه، وموقفه من الارث مثلا شاهد على تمسكه بالنص الثابت الورود القطعي الدلالة. رجل طموح إلى السلطة، قد تمت تعبئته بمشاعر ضدية للنهضة من قبل ايديولوجيين يدفعونه دفعا ليكون هراوة ثقيلة يسددونها إلى خصومهم الاسلاميين، بما يفرض التنبّه وعدم الاستدراج والتورّط في معارك لا يستفيد منها غير أعداء الثورة، فيجب التمييز بين الأمرين.
ج- لقد هللت لما حصل يوم 25/07 جماعات ودول وأبواق… مصرّة على اعتباره سقوطا نهائيا لمنظومة الثورة منظومة ثورة 14، واعتبره البعض الآخر انتهاء للإسلام السياسي، ونحن نُقرّ أنه انتصار للثورة المضادة توفرت أسبابه، وكل شيء توفرت أسبابه وقع.. هي مجرد معركة مهمة كسبوها، إنما الحرب سجال، يوم لك ويوم عليك، تونس بلد صغير حمل أوزارا لا طاقة له بها، أوزار انتقال ديمقراطي في وضع إقليمي مالت موازين قواه إلى حين لصالح القوى المضادة للثورة، متوجسة من أنموذج لحكم ديمقراطي ترى فيه تهديدا وجوديا مرعبا لجملة النظام الاقليمي الأوتوقراطي. أما ما أدمنت عليه أحزاب تحتضر وطال احتضارها، من التبشير بمناسبة كل عملية ارهابية أو قرارات حكومية أو تراجع انتخابي لحركة إسلامية، أو حتى من غير مناسبة فتسارع إلى اطلاق العنان إلى ابواقها مبشرة في يقين بنهاية النهضة ..كم من مرة ماتت النهضة ؟!
يجيب هؤلاء الشاعر جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع
وفي عقيدتنا الموت والحياة بيد الله و(كل من عليها فان).
د- لقد انتقلت تونس بثورتها المباركة من حكم فردي استبدادي إلى حكم ديمقراطي يقوده أبناء الثورة إلى حكم توافقي، مزيج من الثورة ومن المعتدلين من النظام القديم، إلى حكم شعبوي في السلطة وفي المعارضة، مضاد للثورة هو وهدة في مسار الانتقال الديمقراطي الذي تمر به بلادنا، والخشية أن تكون قرارات 25/7 بداية لحكم عسكري مقنّع على طريقة أمريكا اللاتينية أو سافر على الطريقة العربية الافريقية..
ومع ذلك نحن على يقين أنه لن يمضي وقت طويل حتى تسترد الثورة وتلتقط أنفاسها وتستأنف مسارها في أوضاع محلية وإقليمية أفضل.. إذ الشعبويات مجرد ايهامات بالقدرة على ملء الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا!! ولكن السكرة لا محالة لن يتأخر طويلا زوال مفعولها.
الرهان هو استعادة الديمقراطية وتجميع كل قوى الداخل والخارج من أجل هدف واحد هو وضع قطار تونس الحبيبة على سكة الديمقراطية بالمحافظة على النظام البرلماني ولو بتعديلات وبناء المحكمة الدستورية وتعديل القانون الانتخابي وعودة البرلمان مع تعديلات في نظامه الداخلي بما يضع حدا للفاشية والفوضى، مع الحرص الشديد على تجنب الصدام مع الدولة ومؤسساتها، وتجميع قوى الشعب لوضع حد للانقلاب وقوى الردة والفاشية. الاستقطاب الوحيد المطلوب إنما هو مع الانقلاب أو ضده، مع الديمقراطية والثورة والدستور وتوزيع السلطات والحكم المحلي والحريات العامة والخاصة أو مع أضدادها في الضفة المقابلة .
والجدير بالملاحظة هنا أن الرياح الدولية تهب لصالح استئناف الثورة مسارها الديمقراطي بفشل الانقلاب، وأنه حتى لو اختفت النهضة جملة كما يتمنى أعداؤها، فإن المجتمع التونسي لن يبطئ طويلا عن معارضة مشروع الانقلاب.
هـ- إن نظرية سعيد “الشعب يريد وهو يعرف ما يريد” كنظريته حول نظام الحكم الجماهيري دون أحزاب وبرلمان.، غير قابلة لأن تترجم إلى خلاص مديونية وتمويل ميزانية وأسعار مناسبة ومواطن شغل وحاجات شعب تزداد تعقيدا. فلا بد أن نترك لفواعل الواقع وضغوطه اليومية على كل حاكم، أن تعمل عملها ضغطا عليه لإنزاله من علياء شعاراته إلى أرض الواقع بما يفرض عليه اكتشاف التناقض السافر، ليس بينه وبين النهضة وإنما بينه وبين مطالب المجتمع والنخب، فلندعه يحكم، ولو نجح، فلن يحزّ ذلك في نفوسنا بل سنفرح له وسنعينه ولن نعيقه. فتونس أغلى علينا من النهضة بل من أنفسنا..
و-الاستقطاب ليس بين النهضة وبين قيس سعيد، بل بين الرئيس وبين الشعب الذي يهتف له اليوم، ويضع كل السلطات على عاتقه وحده. وإنها فرصة لتتفقّد النهضة أوضاعها ويعود منخرطوها إلى ببتهم، لإصلاحه بحسن الاعداد لمؤتمرهم 11 وليكونوا مجددا على الطريق الذي يعيدهم إلى شعبهم.
تاسعا: الخاتمة
إن من حسنات الأقدار أنه خلافا لانقلاب بن علي حيث كانت رهاناته لا تتصادم ورهانات القوى الغربية في المنطقة، بينما رهانات الانقلاب اليوم في صدام مع الرهانات الاستراتيجية والاخلاقية لأهم القوى الغربية والإقليمية. ومن دلالات ذلك أن لقاءات الرئيس ومكالماته مع أهم تلك القوى مثل الجزائر وليبيا والمغرب، القوى المؤثرة في تونس، قد مارست ولا تزال ضغوطا مستمرة عليه من أجل عودة عمل المؤسسات وبخاصة البرلمان والتمسك بالدستور ضمانا للاستقرار. كل ذلك لم يكن شيئا منه إزاء انقلاب بن علي، حيث كان العالم فاتحا أحضانه له وكنا في عزلة كاملة داخلية واقليمية ودولية، ولَم يكن شعب تونس قد ذاق قط طعم الحرية وإنما انتقل من دكتاتورية إلى أخرى، بينما اليوم ملايين من التوانسة الشباب تفتّح وعيهم في زمن الثورة، زمن الحرية وحكم المؤسسات المنتخبة ودولة القانون، من قضاء وأمن وصحافة وإدارة وجيش، ممن أعادت الثورة تأهيلهم وتثقيفهم بثقافة دولة القانون حيث الأوامر المكتوبة الموافقة للدستور والقانون هي التي تنفذ.
إن الدارسين لمسارات الانتقال الديمقراطي يعلمون يقينا أن مسارها طويل، ضنك، ومتقلب، وأنه لا يمضي في خط صاعد أبدا وإنما في خط متعرّج، يعلو وينتكس ثم يعاود الصعود حتى يحقق انتصاره النهائي. إن ديمقراطيتنا الناشئة في عامها الحادي عشر تمر بمرحلة انتقال صعبة وسط محيط اقليمي متفجر لم يسعفه بظروف مناسبة للاستقرار الضروري لتحقيق منجزات تنموية ذات بال، كفيلة بضمان دفاع الجماهير ضد المؤامرات كما حصل في تركيا وضد اغراءات الشعبوية وأحلامها الوهمية، ولكن هذا الانتقال المنتكس اليوم، في مواجهة شعبوية مصممة على الاجهاز على أصل المنجز الثوري: الحرية وتوزيع السلطات بدل تمركزها.. هذه الطوباويات لن تلبث أن تُختبر على محك هموم الناس فينكشف خواؤها وسرابها فتستأنف الثورة طريقها واستكمال برنامجها.. وإن تحركات القوى ضد الانقلاب المتتالية وآخرها نصرة البرلمان يوم 14/11 خطوة متقدمة جدا على طريق سقوط الانقلاب واستئناف المسار الديمقراطي. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” .
تاريخ أول نشر 18نوفمبر 2021