بسم الله الرحمان الرحيم
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أشكر في البداية اللجنة المنظمة التي ساهمت في توفير مناسبة للحوار بين التونسيين بمختلف تياراتهم حرموا إلى اليوم وللأسف من مثلها فوق أرضهم وفي أحضان بلادهم.
إنّ اجتماع المعارضة الوطنية اليوم ضرورة لأكثر من سبب:
فعلى مستوى تونس، ظلّت الأوضاع تزداد سوءا والأزمة تستفحل والرأي العام ينتظر من معارضته ونخبه عملا كبيرا ومبادرات هامّة لفرض الحريات والإصلاحات السياسية والاجتماعية المطلوبة.
وعلى المستوى الخارجي شهدت المنطقة والعالم أحداثا أكّدت غير ما مرّة إلحاحيّة اللّقاء الجامع بين مختلف مكوّنات فضائنا الوطني للنظر في مصيرنا المشترك في ظل اوضاع خارجية تمس منطقتنا وتتعقد شيئا فشيئا مما له انعكاسه المباشر على أوضاعنا العربية التي تستوجب اصلاحات جذرية تبدأ بمصالحات شاملة لا تستثني أحدا.
وإنّ حركة النهضة انطلاقا من قناعتها الثابتة بالعمل المشترك وموقفها الواضح بضرورته ظلّت دائما تشجع كلّ مبادرة في هذا الاتّجاه ما التزمت ضابطين فقط أن لا تقصي أحدا من التونسيين لأننا نؤمن أن سبب ما نحن فيه هو التفرد والإقصاء وأن لا تندرج ضمن التدخل الخارجي على اعتبار أنّ أوضاعنا شأن تونسي محض لا نقبل بتدخل خارجي فيه.
وحركة النهضة تعتبر أن لا سبيل للتحول نحو الديموقراطية والحرية وإنهاء حالة الخوف واليأس والأزمة الشاملة التي تتخبط فيها البلاد إلا بتفعيل المعارضة الجادة والعمل المشترك، وباعتبار حركتنا طرف أساسي من أطراف المعارضة تعتبر أنّ مؤسساتها الفكرية والسياسية مهيئة للإسهام في إزالة أي غموض حول قناعتنا التامة بأن الحرية هدفنا المشترك والديموقراطية سبيلنا المجمع حوله وأن أيّ تردد إنما يتغذى من الدعاية المغرضة أو الجاهلة بفكر حركتنا ومبادئنا.
وحتّى يكون حوارنا بناء فإنّي أقدّم لمحة تاريخية مختصرة لمسيرة الحركة ومواقفها حول جملة من القضايا الهامّة.
لمحة تاريخية مختصرة:
تأسست حركة النهضة - الاتّجاه الإسلامي سابقا- في 6 جوان 1981 حيث أعلنت مجموعة من التونسيين تأسيس الحركة وعقد مكتبها التنفيذي برئاسة الشيخ راشد الغنوشي ندوة صحفية وتقدم بطلب الاعتماد القانوني. وجاء تأسيس الحركة استجابة لحاجة المجتمع التونسي وبسبب عوامل كثيرة منها نمو الوعي بأهمية الأبعاد العربية والاسلامية في مقاومة الاستبداد الداخلي والهيمنة الأجنبية كما انها امتداد لحركة الاصلاح الفكري والسياسي التي تنامت منذ أكثر من قرن في ارجاء الامة العربية الاسلامية وقادت حركات التحرر الوطني من الاستعمار.
غير أنه بمجرد الإعلان عن الحركة وتقدمها بطلب التأشيرة تعرضت لحملة اعتقالات طالت عددا كبيرا من قياداتها وكوادرها الذين حوكموا بعد تعرضهم للتعذيب في محاكمات شهد الجميع بعدم توفر الشروط الدنيا للتقاضي خلالها وأودعوا السجون بأحكام ثقيلة في حين هاجر عدد من الذين لم تتمكن الأجهزة من اعتقالهم أين تحصلوا على اللجوء السياسي واستقروا مطالبين بإطلاق سراح رفاقهم.
وبعد أربع سنوات وإثر انتفاضة الخبز الشعبية تمّ الإفراج عن معتقلي الحركة فما لبثوا أن عادوا يدقون أبواب القانون مجددا للاعتراف بهم فكان جواب السلطة أعنف من سالفه إذ شنّت حملة اعتقالات جديدة سنة 87 طالت ما لا يقل عن 10 آلاف من قيادات وكوادر الحركة حيث تعرضوا لضروب شتى من التعذيب الشديد ما أدى إلى وفاة 20 منهم ولم تكد تنتهي المحاكمة حتى حدث انقلاب في هرم السلطة يوم 7 نوفمبر جاء بالرئيس الحالي الذي أعلن في بيانه الأول تبنيه لأغلب مطالب المعارضة ورفضه الظلم والرئاسة مدى الحياة وقدم وعودا كثيرة للحركة السياسية المعارضة والرأي العام وكان لذلك صدى إيجابي حيث حظي بمساندة أغلب الأطراف ومنها حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا) التي خيّرت إعطاء فرصة لإنجاز ما تمّ الوعد به حتّى تتّجه البلاد ولو بخطوات متدرجة نحو الانفتاح والتعددية الحقيقية والمصالحة الوطنية بعيدا عن الصدام والانغلاق.
لكن النظام الجديد ورغم كل تعهداته المعلنة سرعان ما كشف عن حقيقة مشروعه عندما أقدم على تزييف الانتخابات العامة يوم 2 أفريل 1989 معلنا في ذات الوقت على فوز حزبه بكل مقاعد البرلمان والحرب على الخصوم السياسيين وخاصة حركة النهضة مكونا حكومة للغرض تولّى خلالها الإرهابي عبد الله القلال وزارة الداخلية مستغلا الوضع الدولي الناجم عن الحرب على العراق.
طالت الحملة عشرات الآلاف من قيادات وأعضاء وأنصار النهضة وأخضعتهم لخطة إبادة وتدمير وتعذيب إلى حد القتل والإصابة بالعاهات الدائمة فضلا عن حرب التجويع للأطفال والنساء وتحولت البلاد إلى مجالد ومحاكم وسجون وتنكيل بالمساجين ما أدى إلى موت عدد منهم في السجون بعد المحاكمات مثل الأستاذ سحنون الجوهري عضو الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وبدل أن تفي السلطة بوعودها لبقية المعارضين بتحقيق مطالبهم بعد القضاء على "الخطر الأصولي المزعوم" توجهت أجهزتها لمحاصرة ومحاكمة بقية مكونات الساحة السياسية والمدنية المعارضة فتعرضت الأحزاب وهيئات المجتمع المدني لضروب شتى من القمع والمحاصرة والتنكيل كالتخوين والاعتقال والمحاكمة والتشويه والتهميش.
غير أن ذلك لم يطل كثيرا حتى اكتشف العالم وخاصة الهيئات المدافعة عن الحريات زيف شعارات السلطة وتقاريرها فبدأت تنكشف الحقائق المأساوية والمظالم والجرائم المرتكبة في أرض تونس خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة وساهمت الانفتاحات التكنولوجية والإعلامية كالفضائيات والإنترنت في كشف حقيقة الأوضاع التي فرض عليها جدار من الصمت تهاوى أمام تحقيقات صحفيين أحرار وجرأة النخبة التونسية وهيئات المجتمع المدني.
والتقت الأطراف الوطنية الجادة كلّها على المطالب الأساسية وخاصة العفو التشريعي العام الذي يبدأ بإطلاق سراح ألف سجين سياسي منذ 13 سنة واحترام دستور البلاد والقطع الفعلي مع الرئاسة مدى الحياة وضمان التداول السلمي والانتخابات الحرّة النزيهة وتكونت لأجل ذلك هيئات ولجان كما تشكلت تجمعات وطنية معارضة منها الائتلاف الديمقراطي الذي ساندته الحركة رغم التّردد الذي انبنى عليه فأتى عليه عمليا بعد ذلك.
لقد بذلت حركة النهضة جهودا معتبرة في البحث عن الصيغ السلمية وبذلت وسعها في البحث عن فرص التعايش وتجنب الصدام منذ 1981، وقبلت التكيف مع قانون الأحزاب - رغم طابعه الإقصائي - فكان أن بادرت بتغيير اسمها من حركة الاتجاه الإسلامي إلى حركة النهضة كما حرصت على توفير عوامل الثقة بغاية تحقيق إصلاحات ديمقراطية متدرجة تسمح بتسوية الملفات العالقة. ولكن السلطات الحاكمة تراجعت عن كل وعودها سواء في ما تعلق بالملف الإسلامي أو مجمل الملف الوطني، فلا هي التزمت التعامل الجاد مع المعارضة الإسلامية ولا مع غيرها ولا هي حققت شيئا من الإصلاحات الديمقراطية الموعودة. لقد أدمنت على تزييف الانتخابات وطورت أساليب القمع وتدجين الصحافة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني تحت لافتة مقاومة الخطر الأصولي الوهميّة، ولم يكن ذلك سوى أداة لتسويغ ضرب خصم رئيسي من المعارضة السياسية ومقدمة لمحاصرة بقية القوى السياسية والمجتمع المدني. ومما يؤكد هذه القراءة أن شرور الاضطهاد والقمع لم تقتصر على المعارضين الإسلاميين بل طال ذلك كل مكونات الطيف السياسي والفكري التونسي من ليبراليين ويساريين وقوميين ومن المناضلين النقابيين والحقوقيين. إذ بمجرد "الانتهاء" من ضرب المعارضة الإسلامية وخنقها بقوة الأجهزة الأمنية بدأ تلفيق التهم الكاذبة والمحاكمات الصورية لعدد من رموز المعارضة الوطنية كذلك.
المؤسّسات الفكرية والعقائدية لحركة النهضة التونسية:
1/ الصفة الإسلامية:
إنّ الهوية الإسلامية الواضحة للحركة وحرصها على الالتزام بتصورها الإسلامي لا يعني بأي حال من الأحوال احتكارها للصفة الإسلامية وهي لم تدّع يوما النّطق باسم الإسلام. إذ هي تعتبر نفسها اجتهاد بين اجتهادات أخرى في فهم وتمثل الإسلام الذي جوهره نداء للحرية والتحرر الفردي والجماعي وهدفه سعادة الإنسان ووسيلته استثمار العقل البشري لتحقيق نهضة وتقدم الإنسانية جمعاء من خلال إرساء قيم الحوار والتعاون والتسامح وتبادل المنافع ضمن احترام الاختلافات المتعددة في الألوان واللغات والثقافات والأجناس. وانعكس هذا التصوّر للعلاقة بين الدين كمنبع والنهضة كاجتهاد على فكرها ومن ذلك تأصيلها لمبادئ حرية الرأي والاعتقاد والتعددية الديمقراطية ورفضها لمقولة الدولة الدينية.
2/ النهضة والدولة الدينية :
لقد حمل هذا المفهوم -وخاصة في الفكر السياسي المعاصر- دلالات سلبية كثيرة جعلته التجسيد العملي لإلغاء العقل والقانون والحكم باسم الله في الأرض ولذلك فالنهضة لا تتبنى هذا المفهوم بل ترفضه بالكامل وتعتبره دخيلا على الفكر الإسلامي وهي تناضل من أجل دولة العقل والعدل والقانون والحريات التي تعتمد على جوهر فكرنا الإسلامي الأصيل بعيدا عن ما لحق به من تشويهات وانحرافات بسبب الاستبداد والانحطاط الذي أصاب الأمة الإسلامية.
إن مصدر الشرعية السياسية هو الشعب الذي له الحق وحده عزل الحاكم واستبداله وتحقيق التداول عبر الوسائل المدنية ومن خلال الانتخاب الحر النزيه ولا يمكن لأي سلطة وتحت أي عنوان سواء كانت إيديولوجية عقائدية أو فكرة سياسية أن تلغي علوية أصوات الناخبين.
وضمن هذا المنهج يمكننا ضمان تمثيل إرادة الشعب واحترام حقوق الإنسان والتداول السلمي المدني والمتحضر على السلطة.
3/ النهضة والحداثة :
بعيدا عن الصراع النظري حول مفهوم الحداثة وارتباطاته التاريخية ضمن المنظومة الغربية فإن الحركة الإسلامية في تونس تعتبر جزءا من تيار الحداثة والتطوير بمعنى النهضة ومقاومة الانحطاط والتخلف والاستبداد وانتصارا للحريات الفردية والسيادة الشعبية وهي تصورات تجد أرضية خصبة في مبادئ الإسلام وقيمه وتراثه التعددي ومواريثه الحضارية إذا تخلصت من المفاهيم الانحطاطية اللاّحقة. إلاّ أنّ التعسف في وضع الحداثة في مواجهة الإسلام وتراثه أدى باستمرار إلى عسكرة الدولة الوطنية وجعل التحديث وجها آخر للقمع والانتهاكات وانتهى بالتالي إلى تعميق أسباب الاستبداد والتخلف والتطرف.
وهو ما أفقد المشاريع التنموية السند الشعبي الضروري وحرمها من المخزون العقائدي والروحي والفكري كعامل أساسي لتحقيق نهضة الأمة العربية والإسلامية وشرطا لا غنى عنه لمساهمة هذه الأمة في تطور الحضارة الإنسانية مساهمة إيجابية لصالح الإنسان.
كما أن التنمية والتحديث مفهوم شامل وكلي ولا يمكن فصل أبعاده السياسية عن الاقتصادية أو الثقافية فسيطرة الأنظمة البوليسية فرضت التخلف في كل المستويات وحتى ما تدعيه الأنظمة الحداثوية الاستبدادية من تحقيق الوفرة الاقتصادية فليس سوى غطاء مؤقت يخفي وراءه فسادا ماليا سرعان ما يؤدي إلى الخراب الاقتصادي والاجتماعي بفعل سيطرة شبكات تبييض الأموال التي تؤدي بدورها إلى زرع عوامل الانفجار والتّطرف في قطاعات كثيرة من مجتمعاتنا.
إذن لا بدّ من استثمار الهوية لتحقيق الحداثة والتنمية ولا بدّ من تحقيق التنمية الشاملة بين مختلف الأبعاد.
إنّ الصراع الدائر في البلاد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو صراع بين مشروعين للتحديث: تحديث على أرضية العروبة والإسلام وتحديث على أرضية التغريب والتبعية. ذلك أن حركة الإصلاح الإسلامي منذ القرن التاسع عشر سرعان ما استوعبت فكرة التحديث بما هي علوم وتقنيات وسلطة قانون على أنقاض أوضاع التخلف المادي والمعنوي ومنها الحكم المطلق: حكم الفرد. وفي طور ثان عملت حركة الإصلاح الإسلامي على تطوير وضعية المرأة وإنقاذها من أوضاع الظلم والتخلف وفي طورها الحديث استوعبت كل ذلك: الديمقراطية وحقوق الإنسان ومركزية المجتمع المدني بديلا عن مركزية الدولة.
أمّا في عصر خلفاء بورقيبة فقد غدا الصراع سافرا ليس بين مشاريع للتحديث بقدر ما هو صراع بين مشروع للتحديث والإصلاح يكاد يتجه قدما نحو التوحد تلتقي حوله كل القوى الفكرية والسياسية المعارضة بجد: مشروع يستوعب مكاسب الحداثة المذكورة على خلفية الهوية العربية والإسلامية على اختلاف في الاجتهادات، وبين دولة الاستبداد المحض الموظف في خدمة مصالح العولمة والتطبيع الدوليين.
ولعلّه من الأهمّية التّأكيد على دور هويتنا في حماية وحدتنا الوطنية واستقلال بلادنا خاصّة بعد عودة الاستعمار المباشر من جديد.
4/ سلمية النهضة:
إنّ النهضة لم تفتأ بالفكر والسلوك تؤكد منهاجها السلمي المدني الذي لا ينطلق من موقف سياسي ظرفي وإنما من رؤيتها العقدية ومنهجها الأصولي ومن تقدير بأن ما بلغته البشرية من تطور وحضارة يجعل الكلمة والحجة هي سلاح كل فكرة والبلاغ المبين هو منهج كل مشروع يسعى إلى سعادة الإنسان، من مقررات كلّ مؤتمراتها وهيئاتها.
فالمعرفة والإقناع والكلمة هي وسائل هذه الحركة في تعاملها مع من يختلف معها. ولأن النهضة التزمت المنهج السياسي منذ نشأتها فلم يحدث أن أطلقت رصاصة منذ تأسيسها أو قامت بأي عمل عنيف أو إرهابي. والحوادث القليلة جدا التي نسبت إليها لتسويغ تجريمها ظلت حوادث معزولة يلفها الغموض وأدانتها الحركة دون هوادة. كما أن النضال السياسي المدني والدفاع عن إرادة الشعب والمواطن واحترام نتائج صندوق الاقتراع هو وسيلتها في مقاومة الاستبداد السياسي والعمل مع الآخرين تعايشا وتنسيقا وتحالفا من أجل مجتمع الحريات والتعددية وحقوق الإنسان والتنمية والعدالة الاجتماعية.
5/ النهضة والعنف:
للنهضة موقف واضح وقاطع بإدانة ورفض العنف او الارهاب أيا كان مأتاه. إذ بقطع النظر عن المستهدف وعن من يكون وراءه، فالاعتداء على الأبرياء مرفوض، وكذلك استعمال العنف لحسم الخلافات الفكرية أو السياسية داخل البلد الواحد، كما أنّ اللجوء للحروب بين الشعوب والحضارات مرفوض بشكل مبدئي وقاطع.
ولا شك ان الجهاد والمقاومة من أجل رد العدوان الخارجي والاستعمار القديم أو الجديد وتحرير الأوطان والمقدّسات لا يندرج ضمن الحق فقط وانما يرتقي الى موقع الواجب الديني والوطني ولا يمكن تصنيفه بأي حال من الأحوال ضمن العنف أو الارهاب.
وبقدر ما حرصت النهضة على رفض العنف وسيلة ومنهجا، بذلت السلطة جهودا كبيرة لزرع عوامل التطرف والعنف في تونس وذلك من خلال:
- اعتقال وتعذيب المواطنين.
- استهداف الشباب وحتى الأطفال والنساء في الاعتداءات المتعددة.
- زرع الكراهية والحقد في البلاد.
لقد توسع الظلم والعنف الذي مارسته السلطة منذ بداية التسعينات، وأدى إلى الموت، وفي حالات كثيرة بإطلاق الرصاص (على الطلبة في 8 ماي 1991). وكانت تهدف من وراء ذلك حصول ردود أفعال من المواطنين. إلاّ أن الوعي الذي أشاعته الحركة في أبنائها وحتى المتعاطفين معها وفكرها الإسلامي المعتدل المناضل من أجل الحرية مدنيا، هو الذي منع أو ساهم أكثر من غيره في منع تدحرج تونس إلى ما عرفته بلدان أخرى. فإذا كانت تونس قد نجت من الوقوع في كارثة العنف، فليس ذلك بسبب ما تدعيه السلطة من اليقظة الأمنية، وانما بسبب وعي المعارضة ولا سيما الإسلامية بخطر الاستدراج إلى العنف. ذلك أنّ الآلة البوليسية لا تضمن الاستقرار بالتأكيد، وإنما الوعي السياسي والخيار الاستراتيجي للمعارضة وفي مقدمتها الحركة الإسلامية بالنضال السلمي والمدني هو الذي حقق ذلك.
إنّ مدنية حركة النهضة هو ما انعكس في صبرها وصمودها ضد كل محاولات الاستدراج للعنف المضاد. فواجهت ما تعرضت له من حملات بالصبر على المنهج السياسي والضغط المدني السلمي وكشف الحقائق.
وحرمت النهضة بذلك القوى الاستبدادية من أن تكون لها أسانيد وذرائع، بما أخرجها على حقيقتها استبدادا محضا معاديا لكل معاني الحرية والعدالة ودولة القانون وحقوق الإنسان. وفي المقابل أمكن لاعتصام النهضة وصمودها على نهج المقاومة المدنية، أن تجلي مظلمتها سافرة داخل البلاد وخارجها، واستقطبت للدفاع عنها قوى تحررية حقوقية وسياسية محلية ودولية متزايدة، وأوقع السلطة في عزلة متفاقمة، وفتح الطريق أمام استئناف مسيرة الحوار واللقاء والتعاون والتنسيق بين مختلف قوى المعارضة الجادة مع الحركة الإسلامية على طريق جبهة واسعة لمعارضة جادة تفرض التحول الديمقراطي المنشود وبناء دولة الحق والقانون.
6/ من مواقف حركة النهضة التونسية حول قضايا العنف:
- اعتداءات 11/09/2001 :
أصدرت حركة النهضة يوم 11/09/2001 بيانا سياسيا بعنوان ’’النهضة تدين بشدّة الاعتداءات من دون أي تحفظ‘‘، أدانت من خلاله هذه الأحداث الأليمة بقطع النظر عما يكشفه البحث عن هويتهم وأهدافهم ودوافعهم، واعتبرت النهضة هذه الجريمة لا يقبلها دين ولا تبررها مواقف فكرية أو سياسية، كما ادان البيان بشدة اتهام الاسلام والمسلمين وشن حملة اعلامية عليهم.
كما أصدرت بيانا مشتركا مع عدد كبير من قادة ومسؤولي حركات إسلامية ووطنية عربية يوم 12/09/2001 بمبادرة منها، أدانت الأحداث وطالبت بمحاكمة المسؤولين بدل المسارعة إلى الحرب.
أصدرت بيانا يوم 12 أكتوبر 2001 دعت فيه إلى إيقاف الحرب على أفغانستان لما تلحقه بشعب فقير مقهور من دمار، كما أدانت ما أعلنه تنظيم القاعدة من بيانات، ورفضت نطقه باسم الإسلام أو الأمة الإسلامية التي لم تختر الحرب الشاملة وإنّما الحوار مع غيرها من الأمم والحضارات.
- الموقف من التفجيرات في باريس :
أصدرت النهضة بيانا يوم 05/12/1996 أدانت بشدّة التّفجيرات التّي وقعت في باريس، نص البيان:
ENNAHDHA condamne le retour de la terreur à Paris
Encore une fois, la violence aveugle frappe la France semant la mort et la terreur au sein de la population civile.
Quelque soient les commanditaires et les exécutants de cette barbarie ENNAHDHA la condamne avec la plus grande fermeté, d'autant plus qu’elle prend pour cible un pays occidental -la France- dont la politique Arabe et proche oriental est relativement la plus équilibrée et impartiale.
Le 05/12/96
Rached Ghannouchi
Président du Mouvement ENNAHDHA
- الموقف من احتجاز les Moines الفرنسيين والإيطاليين في الجزائر:
أصدرت النهضة موقفا أدانت فيه بشدة هذا الاحتجاز وطالبت بإطلاق سراحهم واعتبرت التهديد بقتلهم جريمة أدانتها بشدة بعد ذلك في بيان حرّم هذا الفعل دينيا وجرّم القائمين به.
7/ النهضة والديمقراطية:
تميزت الحركة الإسلامية التونسية بالجمع بين التوجه الإسلامي والمطلب الديمقراطي، ومن ثم كان دخولها الساحة السياسية معززا لرصيد الحركة السياسية التونسية، وعاملا داعما للمجتمع المدني ومعركة التحول الديمقراطي عموما، تواصلا مع تراث الحركة الإسلامية الإصلاحية في تونس منذ خير الدين التونسي والشيخ الثعالبي والشيخ الطاهر بن عاشور وبقية أقرانهم وتلاميذهم في المشرق والمغرب الإسلاميين الذين لم ينفصل عندهم خيار الإصلاح والتجديد عن مطلب الحكم المقيد بالدستور وتجذير مناخ الحرية والمشاركة العامة والانخلاع عن الحكم المستبد والمطلق.
إنّ تصوّر النهضة الإسلامي ينطلق من قناعة بقدرة هذا الدّين العظيم على تصويب مسار الحداثة وتدارك عثراتها وإخفاقاتها الناتجة عن الفراغ الروحي وطغيان النزعات العدمية والمادية القاتلة للضمير والكيان الإنساني. وعلى هذا الأساس تمكنت هذه الحركة من استيعاب قوى اجتماعية متنوعة خاصة في صفوف الشباب التلمذي والطالبي والمثقفين وقطاع النساء وهي قوى طامحة إلى التغيير الديمقراطي على أرضية الإسلام.
لقد بذلت الحركة الإسلامية التونسية منذ الإعلان عن تأسيسها سنة 1981 جهودا رائدة في تأصيل الفكر الديمقراطي التعددي في الوسط الإسلامي التونسي وفي المحيط العربي والإسلامي عامة. كما بذلت كل الوسع للانخراط في المنتظم السياسي الرسمي وتجنب آفة العمل السري حيث ظلت توالي مطالبها في الترخيص القانوني منذ الإعلان عن نفسها ولكن دون جدوى. بالإضافة إلى ذلك فقد كانت الحركة الإسلامية التونسية سباقة أيضا في تبني العمل التنسيقي والتعاوني مع بقية مكونات المعارضة الوطنية على قاعدة المطلب الديمقراطي، ولئن شهد هذا النضال بعض التعثر بسبب نجاح السلطة في بداية التسعينات في استدراج بعض أطراف المعارضة مستخدمة سلاح التخويف من الخطر الأصولي المزعوم وبعض الوعود الخلابة إلا أن هذا القوس في طريقه إلى أن يغلق استئنافا لذات الروح والوجهة التي طبعت حركة المعارضة التونسية منذ مطلع الثمانينات خاصة بعدما تقاسمت العائلة السياسية التونسية على اختلاف توجهاتها وألوانها أعباء التضحيات وحمل الاضطهاد من أجل الديمقراطية والتعددية الحقيقية وتعتبر تجربتنا في الجامعة تجسيدا لهذا الفكر.
لا بدّ من التّأكيد هنا أنّ الديمقراطية آليات لتنظيم الاختلاف سلميا واحترام نتائج الانتخابات وهي بالتّالي لا ترتبط بإيديولوجية دون أخرى. كما أنّ المستبد يمكن أن يحمل أيّ إيديولوجيا، بل يمكن أن لا تكون له إيديولوجيا أصلا. لذلك فإنّنا مدعوون جميعا إلى توفير ضمانات البناء الديمقراطي وأهمّها ثقافة التّعايش المدني والاعتراف المتبادل والتّوازن بين الدّولة والمجتمع حتّى لا يتغول الحاكم.
8/ النهضة وتحرير المرأة:
فبالإضافة إلى انتماء آلاف النساء والفتيات لحركة النهضة وإصرارهن رغم تعرضهن للاضطهاد بسبب هذا الانتماء، فإنّ النهضة كانت إحدى تيارات تحرير المرأة، وتميزت بطرحها منذ التأسيس لهذه القضية على الرأي العام التونسي والإسلامي. ورغم أن موقفها التقدمي قد لاقى انتقادات بعضها حاد وصل حدّ التكفير من الجماعات "الإسلامية" المتشدّدة، حول قضايا كثيرة منها تبنيها للديمقراطية والحوار مع الغرب وخاصة مطالبتها ونضالها من أجل تحرير المرأة تحررا حقيقيا وجوهريا -رغم ذلك- فلم تزدها المسيرة إلاّ تمسكا بهذا الموقف.
ذلك أنّ النهضة لم تنظر إلى قضية تحرير المرأة كشعار براق في معركة انتخابية أو حتى ظرفية لمواجهة خصم سياسي ما، وإنما اعتبرت هذا التحرر شرطا لازما لنهضة مجتمعها وأمتها. فكان لزاما على النهضة أن تواجه مقولات وثقافة الانحطاط التّي اضطهدت المرأة وتغلفت بذلك بمقولات دينية اعتبرتها النهضة مناقضة لجوهر هذا الدين الذي يقوم على تكريم الإنسان امرأة كان أو رجلا وحريته، فطالبت بالمساواة بين الجنسين مساواة كاملة، وتبنت فكرا لا يقوم على الصراع وتبادل مواقع الاضطهاد بين الرجل والمرأة، وإنّما يدعو إلى التعاون والتكامل ضمن مبدأ المساواة أمام الله تعالى وأمام القانون والحقوق والواجبات. معنى التكامل هنا والتعاون على البر والتقوى.
إنّ حركة النهضة لا تفرق بين النساء والرّجال في نضالها من أجل الحريات الفردية والعامة، وخاصة حرية الاعتقاد والتفكير والتنظم والتعبير واللّباس والتّنقل. ولا بدّ من التّأكيد هنا على حرّية اللّباس الذّي صدرت بشأنه مناشير تعسّفية (108) ولم يع الكثيرون بخطورته إلى اليوم.
إنّ جوهر الخلاف بين النظام والحركة في قضية المرأة، هو إيمان النهضة بأن معركة تحرير المرأة حلقة رئيسية في حلقات معارك الحرية ومقاومة الاضطهاد والاستبداد في البلاد. وذلك النضال من منطلق عقائدي مؤسس على قناعة ثابتة، في حين يرفع نظام الحكم موضوع المرأة شعارا لا يشمل إلاّ أقلّية مستفيدة من المتنفذين والمتنفذات، وفي المقابل تتعرّض مئات الآلاف من النساء والبنات في بلادنا للاضطهاد السياسي والاجتماعي، وتعاني من الفقر والاستغلال الاقتصادي والجنسي والأمية والتمييز في المدن والأرياف.
وعندما يكون موضوع تحرر المرأة على عمقه وتشعب أبعاده وسيلة دعاية سياسية رخيصة، لا يمكن أن يزيده ذلك إلاّ تهميشا ومفارقات بين الخطاب والدعاية والممارسة والواقع، وهو حال المرأة في بلادنا رغم كل الأرقام الحكومية المضخمة. وفيما يخص الاصلاحات الواردة في مجلة الاحوال الشخصية والتي كانت في عمومها تمثل مطلبا للحركة الإصلاحية الدينية من زمن بعيد، فإن النهضة عبرت ولا تزال عن مواقف ايجابية منها باعتبارها إطارا عاما صالحا لتنظيم العلاقات الأسرية.
9/ النقابي الاجتماعي
تبنت حركة النهضة المطالب الاجتماعية للحركة النقابية والشبابية التونسية وساهمت في تطويرها ودعمها ومساندتها والنضال من أجل تحقيقها مع غيرها من القوى الوطنية السياسية والاجتماعية الأخرى.
ولا ترى النهضة مشروعية لهيمنة أي طرف سياسي على المنظمات النقابية وتدافع بكل مبدئية وحرص عن استقلالية اتحاد الشغل والمنظمات الطلابية عن السلطة وكذلك عن الاحزاب والتيارات السياسية لتكون تعبيرا عن مطالب منخرطيها المشروعة.
كما طالبت النهضة ولاتزال بحوار وطني حول السياسة الاجتماعية والاقتصادية بمشاركة كل الاطراف المعنية وايقاف سياسة الخوصصة التي تتم بعيدا عن مصالح البلاد وتصب في منافع اقلية متنفذة وتؤدي الى تخريب المؤسسات العمومية والبطالة والفقر وتعمق التّبعية لرؤوس الاموال الاجنبية بما يهدد الاستقلال الوطني في كل مقوماته.
10/ النهضة والعلاقة بالغرب أو العلاقة بالآخر الحضاري:
قال الله تعالى: "يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، صدق الله العظيم.
تضع النهضة نفسها ضمن تيارات الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان والشعوب لبناء علاقات بديلة عن الحروب والصراعات الدموية، تقوم على التدافع السلمي وتبادل المنافع المادية والأدبية من مواقع الاحترام والتعاون في بناء الحضارة لصالح الإنسان قيما ومنافعا. وهي تنطلق في موقفها هذا من النص القرآني المقدّس الذي يعرّف العلاقة بين الناس أنّها علاقة تعاون على الخير وإعمار الأرض، يقول تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
كما أنّ تنصيص القرآن على المساواة بين كل بني آدم مسلما وغير مسلم بقطع النظر عن جنسهم أو جنسيتهم أو لونهم أو دينهم أو لغتهم، هو الذي يؤطر علاقة النهضة وموقفها من الغرب، يقول تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"، فالتكريم يشمل بالسوية الإنسان بقطع النظر عن كل الفوارق. وهذا هو الإطار العام الذي يتنزل فيه موقف النهضة من الغرب.
كما أن مواقف النهضة المتعلقة بقضايا غربية أو حول العلاقة بين الإسلام والغرب التزمت هذا المنهج الداعي إلى الحوار والرافض للحروب.
والنهضة ناضلت وتناضل من أجل تحييد منطق العنف والهيمنة وردّ الفعل ومساندة الاستبداد. وهي حلقة مدمّرة تتقلب بينها كثير من البلاد العربية والإسلامية، ولم تزدها العقود إلاّ مأساوية انعكست في النهاية على الجميع في الشرق والغرب.
فمنطق الاستعمار وإلغاء الهويات الأخرى أو تهميشها لا يساهم في تطور المُهَيْمن ولا في حضارته، وإنّما بالعكس يتراجع بها عما حققته البشرية من مكاسب أدّت إلى احترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها.
نحو ميثاق وطني للمعارضة
إنّ الصراع في تونس اليوم ليس بين نظام وحركة اسلامية منفردة، وانما بين مجتمع بكل فئاته ونخبه، النهضة جزء منها، يطالب بالانفتاح والعدالة الاجتماعية، وبين سلطة تصر على الانغلاق ورفض الحوار السياسي والتمسك بالحلول الأمنية التي لم تأت بخير.
وليس جديدا أن تعمل المعارضة معا فقد تقدّمت المعارضة التونسية خطوات على هذا الطريق لكنّها انتكست بحكم الحسابات الضيقة أحيانا وبضغط عنيف من الاستبداد كذلك. حتّى تأخرت الساحة التونسية عن مثيلاتها العربية بعد أن كانت من روّاد هذا المنهج القائم على التعايش والاعتراف المتبادل والعمل المشترك بين جناحي المعارضة الإسلامي العروبي والعلماني. واليوم تجدد الوعي بعد ثمن كبير دفعته البلاد والشعب وكلّ القوى الوطنية الجادّة.
نحن نؤمن أيّها الإخوة أن عملنا المشترك ليس هواية أو أمرا ثانويا وإنّما ضرورة يجب أن تستجيب لها القناعات فتتعدّل العقول ومناهج العمل السياسي على مقتضى المصلحة العليا لبلادنا وشعبنا وأمّتنا. وإنّ أجمل هدية للاستبداد هي تواصل تشتّتنا.
ليس العمل المشترك إلغاء للخصوصيات ولا قفز على الاختلافات، وإنّما التقاء على القواعد الأساسية لإدارة الاختلاف وتحديد المطالب ذات الأولوية والأرضية التّي لا غنى لبلادنا عنها للوصول إلى مجتمع الحريات والمساواة ودولة العدل والحق والقانون. فنحن لسنا بصدد تكوين حزب واحد حتّى نتّفق في كلّ شيء وإنّما بصدد العمل على بناء جبهة أو تحالف واسع على قاعدة المتّفق حوله وهو بالأساس سياسي.
وسيكون العمل المشترك اختبار حقيقي وعملي لتجسيد القناعات على أرض الواقع، ذلك أنّ الفكر الإقصائي لحظة المعارضة هو بالتأكيد استبداد مفرط زمن الحكم. والذي يناضل من أجل حريته فقط إنّما يأخذ موقع النظام داخل فضاء المعارضة.
النهضة تقدّم المصلحة الوطنية فوق كلّ مطالبها الخاصّة، فليس لدينا أهداف أخرى غير أن تكون تونس روضة من التفاهم بين أبناء البلد الواحد نتيجة جهودهم من أجل بناء مجتمع تقدّمي متحرّر من الانحطاط ومن الاستبداد مستنير بمكتسبات العصر متمسكا بالهوية العربية الإسلامية وداعما لقضايا أمّته منفتحا على الضفة الأخرى من المتوسط وعلى إفريقيا وعلى كلّ العالم.
من المفترض أنّ الجميع هيئات وأفراد قد استوعب الدرس بعد نصف قرن من النضال التونسي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، تداول خلالها الجميع من نقابيين وسياسيين وحقوقيين على السجون وتعرّضوا للقمع والمظالم بألوانها، وأشدّها التعذيب القاتل الذّي أدّى إلى استشهاد العشرات من خيرة أبناء وبنات تونس الحبيبة، وتأكّد خلالها فشل العنف والاستئصال في إلغاء وجود طرف سياسي وفكرة أصيلة في المجتمع، وتأكّدت كذلك من خلالها ضرورة ممارسة نقد ذاتي من الجميع دون استثناء لتحقيق تطوّر حقيقي نحو بناء الديمقراطية.
ولإنجاح عملنا المشترك والمساعدة على التّحول نحو الديمقراطية، ولنزع حجة الفزاعة من أيد كثيرة، أعلنت النهضة وتجدد اليوم إعلانها أنّها لا تطرح نفسها بديلا منافسا على الحكم، وإنّما تدعم الانتقال نحو الديمقراطية ولو على مراحل.
ونحن مستعدّون لأفضل وأرقى صور التعاون والتحالف بين الأطراف الوطنية، ومستعدّون للتفاعل مع ما دون ذلك ترفقا وكخطوة في الطّريق الصحيح.
إنّنا حريصون على مشاركة الجميع في صياغة هذا العمل منذ البداية وندعو زملاءنا للعمل في نفس الاتّجاه.
قد يعمل البعض كما عمل سابقا على التشويش على هذا المسار بطرح قضايا هامشية، ولكنّنا نرى هذا التّطرف في انحسار متسارع، وعلى القوى الوطنية الجادّة أن تمضي إلى الأمام، إلى خطوات جريئة في مستوى استحقاقات المرحلة بما يؤهلها للعب دور تاريخي.
نحن نعتبر أن النضال المستمر للمعارضة لابد أن يتأطر ضمن إطار قادر على تفعيل مختلف أطرافه، واستثمار كل حدث من الأحداث الناتجة عن قمع النظام لمكونات المجتمع المدني، ودفع العمل المشترك خطوة إلى الأمام، من أجل مأسسة عمل المعارضة، وتوجيهه في اتجاه مشترك وفاعل. لذلك نقول أنّه آن الأوان لإيجاد أرضية للعمل المشترك. وفي هذا الإطار نساند مقترح ميثاق بين مختلف القوى الفاعلة في الساحة التونسية، وأن يتركز هذا الميثاق على تصوّر مشترك لمرحلة ما بعد الدكتاتورية، وستكون تلك الأرضية منهجا للعمل المشترك خلال مرحلة النضال من أجل الانتقال نحو الديمقراطية.
ومن أهم بنود مثل هذا الميثاق:
** حماية استقلال البلاد واستقلال قرارها، وأن تقوم علاقاتها الخارجية على خدمة مصالحها العليا وضمن الاحترام المتبادل وتبادل المنافع، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأمّة العربية الإسلامية، داعمة لكلّ القضايا العادلة في فلسطين وغيرها.
**أن يتأسس وضع البلاد على قاعدة المساواة بين كلّ المواطنين، لا سيما بين الرّجل والمرأة وبقطع النظر عن الانتماء السياسي أو الموقع الاجتماعي أو الجهوي.
** بناء نظام ديمقراطي تعدّدي يقوم على علوية صناديق الاقتراع، واحترام الأغلبية وحفظ حقوق الأقلية، والتعددية الفكرية والسياسية.
** حق الجميع في العمل السياسي والجمعياتي في إطار القانون الضامن لذلك.
** استقلالية القضاء وحياد مختلف هيئات الدولة عن كلّ الأحزاب والحركات.
** ضمان حرية التفكير والتعبير والتنظم والسفر والتنقل والإعلام للجميع.
** رفض العنف من حيث أتى وسيلة للوصول إلى الحكم أو أداة للبقاء فيه واعتماد آليات التداول السلمي المدني على السلطة.
** السعي إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بما يجعل الثروة الوطنية ملكا لكلّ الشعب وإنهاء استيلاء أقلية عليها وبناء اقتصاد وطني منفتح لتحقيق تنمية شاملة مستديمة.
إنّ العمل من أجل هذه الأهداف المشروعة لبلادنا يستلزم نضالا يتمّ خلاله التّنسيق بين مختلف القوى الوطنية والشخصيات الفاعلة على أرضية واضحة ويتطلب تحديد أولويات عاجلة في مقدّمتها:
- إيقاف المحاكمات السياسية وإخلاء السجون من السياسيين وسجناء الرأي.
- التّصدّي للتعذيب وتجريمه وإنهاء ممارسته والتعويض لضحاياه.
- إعلان العفو التشريعي العام.
- الانفتاح السياسي لإنهاء مناخات الخوف والرّعب التي تسيطر على البلاد.
- إجراء انتخابات حرّة نزيهة تنبثق من خلالها مؤسسات تمثل إرادة الشعب وتمتلك المشروعية الشعبية التّي تؤهلها لخوض معارك الإصلاح السياسي الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
وإذ نجدد تحيتنا لفعاليات المجتمع المدني من هيئات حقوقية ولجان دفاع عن حرية التعبير وشخصيات مستقلّة وفي مقدّمتها القاضي الفاضل المختار اليحياوي، فإنّنا نأمل أن تنبثق عن ندوتنا هذه أرضية عمل مشترك وخطوات عملية وربّما هيكلية لتطوير أداء المعارضة التونسية من أجل الحريات والديمقراطية.