search

وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ...

لم يعد هناك مجال للشك عندي أنه تستقبلنا سنوات عجاف، سيتحكم في مدتها ما يمكن أن يحدث من تحولات بنيوية، في الطبيعة أو في الخارطة الجيوسياسية.

يبدو هذا الكلام محبطا ... وسأنعت بالتشاؤم ... لكنني - في شخصي - بكل صدق لست محبطا ولا متشائما ... علمتني الحياة أن المحنة قد تجلب المنحة ... بل قد تكون ضرورية لذلك ... علمتني الحياة وقراءة التاريخ أن التغيير الحقيقي هو تغيير ما بالأنفس، و هو تغيير بطبيعته يتسم بالبطئ ... لأنه يستهدف تغيير اللاوعي ... المسؤول الرئيسي على عالم انفعالاتنا واراداتنا التي تترجم افعالا في الواقع ... علمتني الحياة وقراءة التجارب أن النكبات والمحن والفتن وكل الاحداث الجسام في الطبيعة او في المجتمع ضرورية لاحداث التغيير في ما بأنفس المجتمعات ...

لن آتي بجديد حين أؤكد على أن المعارك التي تخاض، والجهد الذي ينفق باسم الوعي وتجديد الوعي والعقلانية لا يمثل تأثيره معشار ما يفعله ويبنيه ويقرره اللاوعي الفردي والجماعي ... ولا معشار ما تفرضه البنيات الكبرى التي تحتضن بنياتنا الصغرى كبلد وكمجتمع وكموقع وكطبيعة ومناخ ومساحة ... كل تجاهل او استهانة لسطوة البنيات التحتية المادية و المجتمعية والجيواستراتيجية، والبنيات الفوقية المافوق قطرية الثقافية والنفسية ، الشعورية واللاشعورية ... كل تجاهل لذلك ينم عن قصر نظر وجهالة .... للأسف هي جزء من طبيعة هذا الانسان الذي تجرأ على تحمل الأمانة التي استنكفت عن تحملها السماوات والارض والجبال.

قراءة التاريخ وتأمل الواقع علمتنا أن كل الصراعات التي يقيمها "الوعي" الانساني على سطح اليابسة والمجتمع وخلال المسافات القصيرة - التي تبدو له طويلة واحيانا طويلة جدا - لا يتجاوز تأثيرها في البناء النفسي والثقافي للشعوب ما تفعله الرياح حتى العاتية منها في اعادة تشكيل الصخور ... عملية "الحت" التي تقوم بها الرياح والامطار تأخذ من الزمن اعمارا واجيالا حتى تفعل فعلها.

ولكي ندرك كم هو جزئي ومحدود التأثير عالمنا المرئي المعيش والصاخب بالحركة والتدافع والصراع، يكفي أن نغير موقعنا أو نظاراتنا .... تخيل انك ترتفع شيئا فشيئا عن سطح الارض .... ستجد انك كلما ابتعدت اختفت لك مشاهد ومواقع وحركات كانت تبدو لك مهمة ومؤثرة ... لكن بابتعادك عنها ظهرت محدوديتها وفي نفس الوقت بدت لك الفواعل الاخرى المؤثرة والمحددة.

وتخيل انك استعملت نظارة دقيقة هي عبارة عن مجهر وهممت أن تتخطي مكانك ... ستكتشف أنك عاجز عن التحرك لهول ما بدا لك من عوالم وكائنات تتحرك وتتفاعل في حركة دائبة وصراع محموم .... هل ترى أن كل ذلك لا أثر له في واقعك الطبيعي ؟ كلنا يعلم كم يؤثر الفيروس اللعين الذي لا يرى الا بالمجهر على حياتنا .... ولك ان تتخيل أن ما حولنا يعج بالكائنات المجهرية التي تفعل التأثير نفسه ولكننا عنها غافلون ....

تلك "العوالم" المادية الماكروسكوبية والميكروسكوبية يوجد مثلها تماما في عالم الافكار والمعاني والتصورات، لها هي ايضا قوانينها التي تسير حركتها، وهي مثلها تماما عالم من الحركة والتدافع والصراع.

لكل ذلك علينا أن لا نجزع ولا نيأس ولا نتشاءم ... علينا أن نعمل ونتفاءل ... ولكن مع إدراك لسنن التغيير الاجتماعي وسنن حركة التاريخ وسنن التغيير الطبيعي ....

كل الثورات في التاريخ ... حتى تلك التي قادها الثوار الاشد حزما ودموية وتصفية لخصومهم، و الذين لم يترددوا في استئصال من قامت عليهم الثورة، من خلال "قطع للاعناق وقطع للارزاق" ... كل تلك الثورات شهدت انتكاسات، وبعضها استمر الكر والفر فيها قرنا كاملا ... والسبب بسيط وهو أن الغلبة دائما ما تكون للطبيعة الحقيقية الثاوية في مناطق اللاوعي الاجتماعي ... في السراديب التي تشكل الطبيعة النفسية للمجتمع، وفي ما تتيحه المحددات الطبيعية في الزمان والمكان باعتبارها بنيات فوقية حاكمة ... تتأثر وتقبل التغيير، ولكن بطريقة الترسيخ البطيئة الدقيقة، لا بطريقة التغيير العنيف ... مهما كان عنف التغيير فالمجتمعات مسلحة بقواعد لتلقي الصدمات واستيعابها.

تاريخ أول نشر 2022/6/21