نحن جيل "القطيعة السياسية والتنظيمية" ... نحن جيل "التكفير الديني والإيديولوجي والسياسي" ... بنينا أغلب مقولاتنا السياسية في "دولة الكومبيس" ... في "الحرم الجامعي" المحرم على الدولة حتى وإن كانت هي من تسيره وتنفق عليه ... كنا نأكل غلتها ونسب ملتها ... في مكابرة للواقع ... تنتهي دولتنا عند "الروت إكس" أو بين أسوار الكليات والمبيتات الجامعية ... فثقافتنا نستقيها أساسا من وراء البحار، ولا نطل على ثقافة البلد إلا من باب البحث عن "العورات" ... بدأت تتكسر "أحلامنا" على أسوار الواقع الذي وجدنا أنفسنا على جادته بعد التخرج، وفي الزنازين التي احتضنتنا بكل عذاباتها التي بقدر ما تنفخ في روح الرفض والتكفير لدينا، بقدر ما تحفر في النفوس الأسئلة الحارقة حول الوجود والمصير وحول العيش والتدبير ... أعمارنا كانت تعاند وتكابر وتحلم وتزايد ...
تخرج اليسار أولا وخرج من الزنازين ... وحاول أن يعوض دولة الكومبيس بـ"دولة الاتحاد" ... وسلك البعض الآخر في إطار البحث عن مستقر اجتماعي ونفسي الواجهة الحقوقية ... واعتنق البعض الآخر منهج "الأونترريزم"entrisme داخل مؤسسات الدولة.... ودون أن يتخلى عن أحلامه الثورية جدا، فواصل التنظم السري، كافرا بالقوانين وبالدولة ... اتبع الاسلاميون نفس الطريق والقوميون قبل الجميع ... كانت ما أسميته "إبستمياء الحرب الباردة" تظلل الجميع ... هيمنة القطبين حولت ما دونهما إلى توابع ... وكل ذلك حول الوعي ورؤاه إلى انشطارية مانوية ... حتى الإسلاميون الذين يبشرون برؤية ثالثة لم يسلموا من ذلك الوعي المانوي ... فوجدوا أنفسهم بالضرورة وحسب مواقع الهيمنة التي يتواجدون فيها منحازين موضوعيا إما لرؤية يغلب عليها المنزع الاشتراكي أو إلى أخرى متصالحة مع المنزع الرأسمالي.
لقد عمقت الثورة الإيرانية القناعة بمفهوم القطيعة عند الاسلاميين، وكل محاور الرفض الأخرى عززت ذلك... سوريا ... افغانستان ...
عندما واجهنا محددات الواقع كنا نتحرك في شبه إنكار وتعال ... كنا نضطر مكرهين للتعامل معه ولكن كنا "نتجرعه ولا نكاد نسيغه" ... فنأتيه على محمل الضرورة وهي تقدر بقدرها حالا ومجالا وزمانا ... وبمجرد أن يبدو لنا قبس ضوء من بعيد إلا ونعد العدة للنكوص ... لذلك كان التذبذب سيد الموقف في سلوكنا، والازدواجية حاضرة في خطابنا، و التناقض يبدو جليا في مجالات عملنا ... أين تكون مساحة الفعل بعيدة عن عين السلطة والرقيب نطلق العنان لرؤانا القائمة على القطيعة والتكفير، وحين يكون مجال العمل تحت عين المراقب نحسب الخطوات كي نتوقى الضربات ونستوعبه على اعتبار أنه تكتيك ....
لم يكن الأمر سهلا، فكل خطوة تكتيكية في الخطاب او الممارسة تفرض تحديات على منظومة التفكير ... لأن الاقناع بالخطوات التكتيكية على اعتبار أنها خطوة جدية، وخاصة عند الرد على اتهامات النظام وحملاته المشككة بكل أجنحته الأمنية والسياسية والفكرية والثقافية، تفرض علينا تقديم خطابات متناسقة وعميقة، فتلعب عندئذ دورا عكسيا من حيث أنها تقوم بعملية التغيير في منظومة تفكيرنا ...
أذكر جيدا كيف بدأت تتسرب لمجالات عملنا التربوي والفكري والسياسي المفاهيم الجديدة ... بقدر ما كانت تستقبل عند القليل بحفاوة بقدر ما كانت الاغلبية تستقبلها بتوجس ... فالحرية قيمة جيدة لكن ما هي حدودها؟ ... والديمقراطية كيف تستقيم مع الشريعة؟ والحوار جيد ولكن كيف نحاور الظالم والكافر؟ والتعامل مع النظام أليس هو اعتراف به؟ والبرلمان ركح مسرحي كيف ننضوي تحت سقفه؟ والخضوع للقانون اعتراف به إذن كيف نعارضه ؟ والدولة عدونا وعدو الشعب كيف نطبع معها؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تثار ولا زالت تثار ... ولو دققنا الحجج التي تثار الآن في جدل المقاطعة والمشاركة لوجدناها تضرب بجذورها هناك.
تلك هي المسارات التي اتبعتها الحركة السياسية التونسية بمختلف توجهاتها ...
حاولت المعارضة التي انبثقت من داخل النظام لعب دور تعديلي في توجهات المعارضة التونسية ... وهي معارضة لم تنشأ في فضاء القطيعة، وإنما خرجت من رحم الحزب والدولة، وكانت تحمل ثقافة سياسية أخرى ... وكانت صادقة في دعوتها للديمقراطية، وتناضل من أجل التغيير، ولكن من داخل الفضاء السياسي القانوني، ومن دون عداء وقطيعة مع الدولة .... لقد كان لتلك المعارضة تأثير ولكنه بقي محدودا ... لم يغير القناعات التي ترسخت بالشحن الإيديولوجي الذي امتلأت به عقول وقلوب المعارضة الفتية حتى فاض على من حولها.
لذلك كان مفهوما بالنسبة لي أن تشهد سنوات الانتقال الديمقراطي العشر تلك الاختناقات وذلك الاستقطاب وذلك التعاطي المضطرب مع الدولة .... ومفهوم أيضا استمرار الجدل واستمرار عقلية القطيعة والتنافي وعدم القدرة على بناء التوافقات المتينة وتخصيب ثقافة التشاركية ...
أتفهم الجدل الحاد الذي يدور هذه الأيام حول المشاركة والمقاطعة ... وأتفهم كيف أن غالب توجهات جيلنا نحن جيل السبعينات والثمانينات تدور حول القطيعة والمقاطعة ....
لا أنكر على جيلنا ما قدمنا في صراعنا مع الدولة وأجهزتها القمعية على جميع الواجهات ... وفي نفس الوقت لا أتوقع من دولة تواجهها معارضة قائمة على القطيعة والتكفير أن تستقبلها بالورود ....
لا أنكر أن جيلنا حاول بكل جدية أن يبني قناعات جديدة ... ولا أنكر التأثير المتنامي لتلك القناعات ... ولكن الإقرار بصعوبة تحول قناعات بنيت في شرخ الشباب وتشربها الانسان في شبابه الغض ... نمت مع نمو جسمه وخلاياه العصبية وأشواقه القلبية وميولاته النفسية ... يجعلنا نتفهم تأثيراتها التي لم تختف وانتفاضها من حين لآخر سافرة ومستنفرة في عناد وجموح وصدود.
لقد أبلى جيلنا البلاء الذي مكنته منه محدداته النفسية والفكرية، ولكن إمكانياته في التحول من فضاء ابستيمي لآخر تبقى محدودة وإن حاول .... قد يجهد نفسه ولكن قواه لن تقوى على التغير ...
لا أنكر أنه قطعت جهود مقدرة في بناء ثقافة التعايش والتوافق والمشترك، ولكنها لا زالت تستقبل للأسف بروح التوجس والبحث عما وراءها من المكاسب الحزبية والايديولوجية على أنها محاولة في تجاوز ثقافة القطيعة والتكفير ...
تلك هي سنن التاريخ ... وتلك هي طبيعة المجتمعات ... وعملية انتقال مسؤولية التغيير من جيل إلى جيل، عملية معقدة تلعب فيها طبيعة المجتمعات دورها من حيث المحافظة أو الانفتاح ومن حيث ما توفر للجيل الجديد من ممكنات النهوض ... لذلك قد تطول هيمنة جيل ويتأخر استلام جيل آخر المشعل ... وقد تعين على ذلك تحولات كبرى دراماتيكية طبيعية أو بشرية أو سياسية ... "يموت" على إثرها جيل وينهض جيل .... وكل ذلك دون أن يختفي بعض مما ترسب في أغوار نفسية الشعوب وما فرضته أحكام التاريخ والجغرافيا.
لذلك قد يأخذنا الحماس لإقناع بعضنا البعض برؤانا كما في طبيعة البشر ... ولكن الحماس وحده لن يزحزح صخرة القناعات المترسبة إلا قليلا ... بل إن كثيرا من الاستعدادات أساسها محددات نفسية للفرد وما نشأ عليه، من حدة المزاج أو ليونته، ومن ثبات الشخصية أو مرونتها، ومن روح جماعية أو انكفاء على الذات ... وقد يستحيل النقاش والحجاج نفسي بالأساس وإن تسربل في ظاهره بالعقل والفكر ...
ومن في الناس يرضي كل نفس ### وبين هوى النفوس مدى بعيد
تاريخ أول نشر 2024/10/3